فاروق عطية
بعد احتلال العثامنة لمصر، وقعت المحروسة بين مطرقة العربان وسندال العثامنة طاحنة للمصريين جميعا مسلمين كانوا أو ذميين. فقد زادت هجمات العربان فى الشهور الأولى من نيابة خاير بك وصاروا يمثلون مشكله كبرى له. في 3 ديسمبر 1517م استطاع شيخ العرب حسن بن مرعي (الذي غدر بالسلطان الأشرف طومان باي وسلمه للعثمانيين، جزاءا لخيانته قبض عليه سليم الأول وسجنه بقلعة الجبل قبيل مغادرته مصر) أن يهرب من سجنه من القلعة ليلا، تكدر خاير بك لهذا الخبر وأمر بسرعة القبض عليه. بعد هذه الحادثه بثلاثة أيام دخلت قبايل عربيه الجيزة محدثة العديد من الجرائم فخرج لهم الأمير قايتباى الدوادار على راس تجريده من المماليك و العثمانيون لطردهم، ولما كان عدد العربان أكثر من عشرين ألف إستدعى الأمر خروج خاير بك بنفسه على راس تجريده لكن وهو فى طريقه احتك بالعثمانيين فخاف منهم و عاد إلى القلعه. إنتقل العربان إلي البحيرة يعيثون فيها فسادا، فشن عليهم الأمير قايتباى الدوادار في 22 ديسمبر 1517م تجريده من المماليك و العثمانيين لطردهم والقبض علي شيخ العرب حسن بن مرعي فهربوا للجبال. ظل حسن بن مرعي هاربا حتى استطاع اينال السيفي "كاشف الغربية" استدراجه واسكاره والقبض عليه هو وأخوه شُكر بجوار سنهور في مارس 1519م، وتم أعدامهما بقطع رأسيهما.
 
على قدر معاناة المصريين من شغب العربان كانت معاناتهم أشد وأقسي من دموية وهمجية العثمانيين الذين عاثوا في الأرض فسادا وفي المواطنين ترويعا، كانوا يدخلون الأحياء السكنية للنهب والسلب وترويع الآمنين. يخطفون السيدات والأطفال من الشوارع ويقتلون من يقاومهم ويغتصبون ما طاب لهم منهم مسببين الرعب والهلع للناس. يدخلون المنازل لنهب منقولاتها، حتى الأبواب والشبابيك الحديدية لم تسلم من جبروتهم، كانوا ينتزعونها ويحملونها علي الإبل ويبيعونها في الأسواق، يقتحمون الحوانيت لنهب ما بها من سلع وأموال ويقتلون من يتعرض لهم، مما دعا أمين قضاة مصر والأمير قايتباى الداودار الذهاب إلى خاير بك فى القلعه وإخباره بما يرتكبه العثمانيون من جرائم، فنادى خاير بك فى القاهره بمنع خروج النساء و الصبيان المُرُد من بيوتهم و ان تقفل الدكاكين و الأسواق ويمنع التجوال في الشوارع بعد الغروب. 
 
أراد السلطان سليم الأول تحويل القضاء في المستعمرات ليكون مشابه بما عنده في اسطنبول فألغى نظام القضاة الأربع في الشام واكتفى يالقاضي الحنفي ليحكم بين الناس. عندما علم خاير بك بذلك أجبر القضاة الأربع في مصر بتقليل عدد نوابهم بداية لما كان يجهز له. والتغيير التالي الذي حدث هو ظهور موظف تركى يجلس على دكه بباب المدرسه الصالحيه بين جماعه من الانكشاريه يسمي بالمحضر. مهمة المحضر كانت إن تعرض عليه القضية قبل أن تعرض على قضاة مصر وحين يصدر المحضر حكمه البات فليس من حق القضاه ان يعارضوه. وكان المحضر يتقاضى أتعابه من كلا الطرفين الشاكى و المشتكى منه، وكان التفاهم بينه وبينهما يتم عن طريق مترجم تركى، كما فرض العثمانيون الضرائب على القضايا اللى ترفع فى نواحى مصر. نقل ابن إياس بيتا من الشعر يعبر عن هذه المظالم الجديدة: يارب زاد الظلم و استحوذوا .:. والفعل منهم ليس يخفى عليك.
 
وضع العثمانيون نظاما لحكم مصر يتألف من عدة هيئات على رأسها الوالي وهو نائب يحكم باسم السلطان التركي وأهم مهامه كانت تبليغ اوامر الأسيتانة للحكومة والشعب المصري، ثم الديوان ثم"الوجقات" أو الحامية العسكرية التي كانت عباره عن فرق عسكريه من الفرسان(السباهية) والحامية العسكرية وأخيرا المماليك. تتمركز الحامية العسكرية فى القاهره والمناطق المهمه تحت قيادة باشا عثمانلى مقيم فى قلعة القاهرة وكانت مهامه ألا يغادر القلعة والمحافظة على النظام في مصر وجمع الضرائب وارسالها للأسيتانة. أدى هذا النظام الذي لم تشهده مصر من قبل إلى نشوب صراع فيما بين هذه الفرق للحصول على أكبر قدر من الامتيازات ليسقط الفلاح في نهاية الأمر ضحية نتيجة الضرائب المفروضة عليه من كل فرقة.
 
بمجرد أن غادر سليم الأول مصر، ثارت الحامية العثمانية وتزعمت فرق السباهية عمليات سلب ونهب شملت القاهرة والأقاليم أدت إلى تجويع المواطنين، كتبوا إلى خاير بك يطلبون منحهم الحق في فرض إتاوات والحصول على امتيازات تسمح لهم بامتلاك مساحات من الأراضي قائلين: "نحن لا يكفينا هذا القدر "ثلاثة نصف فضة في اليوم"، كل شيء في السوق غال، رتب لنا جوامك (راتب) ألفين كل شهر ولحم، وفرّق علينا إقطاعات"، لكن الوالي رفض ذلك، بينما سمح لهم بفرض إتاوات وضرائب غير رسمية على الفلاحين.
 
انشغل الباشوات بجمع الثروات الطائلة وأهملوا تدبير شؤون الحكم وتوفير الأمن ومراقبة الأوضاع في الأقاليم فانتشرت الفوضى وساد الفقر بين المصريين، ما ساعد على ازدياد نفوذ حكام الأقاليم ومعاونيهم من فرق السباهية، فتمكنوا من فرض ضريبة الطُلبة التي تم تحصيلها بالقوة، خاصة بعد وضع قانون نامه الذي أصدره السلطان سليمان القانوني وينص على أن تكتب تراخيص الطُلبة ويوقع عليها الباشا العثماني، ثم يقوم الدفتردار بختمها والتوقيع عليها، ما سهل للجنود ابتزاز الفلاح.
 
استغل جنود السباهية وظائفهم في الريف بفرض إتاوات غير مشروعة على الفلاحين أبرزها "الطُلبة"، التى أخذ اسمها من المطالبة، وهي عبارة عن أموال يفرضها الجنود على الكشاف (حاكم الإقليم)، ليقوم بدوره بتحصيلها قهرا من الأهالي تحت حجج واهية، وبالغ الجند في مقدار الطُلبة التي كانت تختلف قيمتها حسب أهوائهم، لدرجة أنها تخطت الأموال الأميرية (الضريبة الرسمية السنوية). أصيبت الرعية بالفقر والمرض، وتعرضت الدولة لأزمة اقتصادية ضربت أركان السلطنة في القرنين الـ16 و17 بعد أن عجزت عن دفع رواتب الفرق، وتعويضا لهم كان الوالي يكتب لهم عقود انتفاع تجيز لهم تحصيل الأموال من الأهالي.
 
يصف ابن إياس ما تعرض له الفلاحون من عمليات سلب ونهب منظمة على يد السباهية بقوله: "وتزايد منهم الفساد في حق الناس، وصاروا يتوجهون إلى القرى ويأخذون ما فيها من الأبواب والسقوف والشبابيك الحديد ويحملونها على الجمال، ويبيعونها بأبخس الأثمان، ولم يجدوا من يردهم عن ذلك، ثم صاروا يقطعون الطريق من البر والبحر ويأخذون الغنم والأوز والدجاج، وصار أهل مصر معهم في غاية الضنك".
 
تولى محمد أبي السرور البكري الالتزام على قرية في المنوفية، وكانت الأموال الأميرية المفروضة عليها 100 ألف نصف فضة، أما جنود السباهية فقد زادوا عليها 200 ألف إتاوة إضافية تحت مسمى الطُلبة، "وصار جند السباهية يفرضون الطُلبة على الفلاحين والمزارعين في ساير الأقاليم، وعلى العاملين والبطالين ويضاعفونها في كل سنة، إلى أن زادت على أموال المقاطعات". فوصف ما يلاقيه الفلاحون من مظالم وسوء أحوال بقوله: "بالغ الخيالة في فرض الضريبة وهددوا الكشاف حتى وصل الأمر أن يكتب لهم في كل شهر طُلبة، ولم يزل يعظم أمرها إلى أن صار يكتب للناحية الواحدة في اليوم ثلاث طُلب أو خمس فخربت بيوت الفلاحين"
 
ورغم ما لاقاه الفلاحون من عنت وفاقة لم يكن أمامهم من سبيل سوى الشكوى لكل باشا جديد يتولى حكم مصر، على أمل وضع حد لما يحدث من تجاوزات، بينما لم يجدوا من يستمع إليهم أو يرحمهم.
 
وعندما زادت نفقات القصور العثمانية في عهد مراد الثالث الذي تولى حكم الدولة العثمانية من عام 1574 إلى 1595م، لتوسعه في اقتناء الجواري والغلمان، وعجزت الخزانة عن دفع رواتب الجنود والحامية العسكرية بالولايات، فطلب من أويس باشا سد عجز الخزانة من مصر. فأصدر الباشا أوامره إلى فرق السباهية بوقف تحصيل الطُلبة ليس رحمة بالفلاحين ولكن لأنه سيقوم بجمعها لصالح خزانة السلطنة بعد أن قرر زيادة الأموال المرسلة إلى إسطنبول إلى ثلاثة أضعاف، ما تسبب في إعلان السباهية التمرد على الباشا العثماني، وقرروا العصيان وأعلنوا الثورة المسلحة.
 
في أغسطس 1589م هجم الجنود على قصر أويس باشا بالقلعة ونهبوا ممتلكاته، واقتادوا معهم ابنه كرهينة حتى يتنازل عن قراراته ويسمح لهم من جديد بتحصيل الطُلبة، مما اضطر الباشا إلى التخلي عن الضريبة لهم. تسبب انتصار السباهية في ازدياد غرورهم وتعسفهم مع الأهالي، تكرر حصارهم للقاهرة والهجوم عليها وارتكابهم لأعمال واسعة من السلب والقتل، وزادت جرأتهم حينما تصدوا للوالي إبراهيم باشا، وقتلوه مع الأمير محمد بن خسرو في 25 سبتمبر 1604م، وطافوا برأسيهما في شوارع القاهرة.
 
في عام 1607م أرسل السلطان أحمد الأول إلى مصر محمد باشا، على أمل تزويد الخزانة السلطانية من أموال الفلاح المصري، وخاض الباشا معارك طاحنة مع السباهية في شوارع القاهرة والأقاليم، عانى خلالها الفلاح خاصة بعد أن هدم الجنود جسور النيل وغرقت الأراضي الزراعية. استمرت المعارك لشهور استطاع خلالها محمد باشا محاصرة السباهية، وإجبارهم على التخلي عن ضريبة الطُلبة لصالح الوالي، ويذكر أبو السرور البكري ما دار في اجتماع الباشا بأغا السباهية قائلا : "أخذ عليهم العهد بإبطال الطُلبة وأن من سعى في أخذها أو تسبب في طلبها بحيلة من الحيل، أو سبب من الأسباب يكون ساقطا من ديوان الجند، بعد التنكيل به والتمثيل والتحقير، فأقسم له الجند جميعهم يمينا واحدة وأشهدوا على أنفسهم أنهم من الآن لا يمشون في طريق شيء يقال له الطُلبة، ولا يطلبونها ولا يتفوهون بذلك ولا يذكرونه على ألسنتهم".
لم تمض عدة أشهر حتى نقض الجنود عهدهم، يقول ابن أبي السرور البكري:"وصاروا ينزلون البلاد ويغرمون أهلها الغرايم ويُذبح لهم منها الماية رأس غنم ومن البقر والجاموس شيء كثير"، لتعود الطُلبة للظهور من جديد، بينما يشير أحمد شلبي عام 1664م إلى بشاعة السباهية في تحصيل الطُلبة فيقول: "وأحدث سياوش أغا مظلمة على جميع البلاد وسماها الطُلبة وهي باقية إلى زماننا وتسمى طُلبة سياوش أغا وهي كانت في نظير خدمته".