لم تكن السنوات الثمانى الماضية كاشفة فيما يتعلق بنوايا بعض أبناء دول ما يسمى بـ«الربيع العربى»، بل إنها فضحت أحقاد رؤساء دول، ورغبتهم فى إعادة الشرق الأوسط لعصور الاستبداد والاحتلال. كانت تلك السنوات وحدها كفيلة بأن يتحول نموذج ديمقراطية الإسلام السياسى، الذى روجت له تركيا قبل 2011، من نموذج تدعو دول الغرب إلى تبنيه، إلى نموذج كريه يرفضه الجميع، والسبب هو سلطوية واستبداد الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، الذى لم يكتف بسلطاته الواسعة كرئيس للوزراء وإنما سعى لتغيير نظام حكم بلاده وتحويلها إلى النظام الرئاسى ليضمن البقاء فى السلطة أكبر قدر ممكن من الوقت، وما إن حقق أحلامه فى التحول إلى «سلطان جديد»، حتى سعى لتحقيق أطماعه تجاه الدول العربية، انطلاقاً من مساعى إحياء الإمبراطورية العثمانية، حيث قال بلسانه: «نحن أحفاد العثمانيين».

السنوات الثمانى الماضية كشفت عن أمراضٍ نفسية دفينة تعترى الرئيس التركى، ظهرت من خلال شعوره بعقدة النقص، واستبداده، وانقلابه على حلفائه، وجنون العظمة الذى أصابه، حتى بات يسعى إلى تحدى النظام العالمى والخروج من تحالف إلى آخر بحثاً عن مصلحته الشخصية فى الظهور كقائد قوى، أو كـ«سلطان» فى أعين أبناء جلدته، إلا أن تلك الأمراض دفعت به إلى السقوط فى الهاوية، بداية من تورطه فى سوريا مروراً بأزمته مع الولايات المتحدة، وانتهاءً بالأزمة الاقتصادية التى تسبب فيها لتركيا.

«الوطن» تحاول استكشاف تلك الأمراض التى أصابت «أردوغان» بشكل جعله يندفع إلى زعزعة استقرار المنطقة من خلال دعم الجماعات الإرهابية، سعياً إلى تحقيق مآربه.

"المستبد" .. أجهض الانقلاب بـ"رسالة".. وأرسى سياسات "الاعتقال والتنكيل"
بمرور 3 سنوات على محاولة الانقلاب فى تركيا، يرى المحللون أن «أنقرة» شهدت تحولات سياسية وعمليات تطهير منهجية وتوترات مع الغرب، وخرج الرئيس التركى رجب طيب أردوغان من تلك التجربة التى استمرت نحو 15 ساعة، أكثر استبداداً من ذى قبل، واستمرت الحكومة فى عمليات الاعتقالات الواسعة وغير المسبوقة، تُلاحق بلا هوادة من تحسبهم من أنصار المعارض «فتح الله جولن»، المتهم بتدبير الانقلاب، رغم نفيه من مقر إقامته فى الولايات المتحدة، واستغل «أردوغان» حالة الطوارئ المُطبقة منذ الانقلاب، لخنق أى شكل من أشكال المعارضة، لا سيما وسائل الإعلام المناهضة لحكمه.

كان مجموعة من العسكريين الأتراك أعلنت، فى 15 يوليو 2016، رغبتها فى إحلال «الديمقراطية»، وأطلقت على نفسها «مجلس السلام فى البلاد»، فيما شن «أردوغان» هجوماً مضاداً من المنتجع البحرى بجنوب غرب تركيا، يقضى إجازته، ودعا أنصاره للنزول إلى الشارع، فاستجاب لندائه عشرات الآلاف، وحصلت واقعة حاسمة على أحد الجسور التى تربط ضفتى نهر البوسفور، وأعيدت تسميته منذ ذلك الحين بجسر شهداء 15 يوليو، حيث جرى إطلاق النار على المدنيين، وفشلت محاولة الانقلاب مع استسلام منفذى المحاولة فى الصباح الباكر.

50 ألف معتقل و100 ألف حالة فصل تعسفى.. وتراجع الاقتصاد.. والمحسوبية والفساد يحكمان سيطرتهما على الدولة
واعتبر «أردوغان» هزيمة الانقلابيين انتصاراً للقوى الديمقراطية فى تركيا، لكن الأمل فى حمل السلطات على الانفتاح ولم الشمل سرعان ما تلاشى أمام حجم حملة الاعتقالات التى نفذتها السلطات، وتوعدت الحكومة باستئصال «الفيروس»، على حد تعبيرها، بحملات تطهير اعتقل خلالها أكثر من 50 ألف شخص، وتم صرف أكثر من 100 ألف من وظائفهم أو تجميدهم، وشملت عملية التطهير الأوساط المؤيدة للأكراد، حيث زُج بأبرز قادتهم السياسيين فى السجن رغم معارضتهم الانقلاب، إلى جانب عشرات الصحفيين، وناشطين فى منظمة العفو الدولية غير الحكومية.

وأصبح «أردوغان» فى أوج استبداده، فاستعاد زمام الجيش، وعدّل الدستور بحيث يتيح له البقاء فى الحكم حتى 2029، ونجم عن ذلك انقسام عميق فى المجتمع بين مؤيدى «أردوغان» ومعارضيه، وبعد 3 سنوات، لا تزال «أنقرة» تجد صعوبة فى فرض مبرراتها لحملات التطهير الواسعة، وإقناع العواصم الغربية بها، ما أسفر عن توترات دبلوماسية، وردت تركيا بغضب على الانتقادات الأوروبية لانتهاك الحريات، حيث طالبت «واشنطن» بتسليم «جولن»، لكن تجاهلت الأخيرة الطلب حتى هذه اللحظة.

ونقلت وكالة «رويترز» عن الباحث والكاتب فى الشئون العسكرية فى إسطنبول «جاريث جينكينز»، قوله: «من الواضح أن هذا الانقلاب تم التخطيط له بشكل جيد جداً، لكن باستخدام دليل تكتيكات يعود للسبعينات، وبالفعل كانت محاولة انقلاب غريبة تنتمى للقرن 20، وانهزمت أمام تكنولوجيا القرن 21، وقوة الشعب، فعندما حاول (مجلس السلام) الذى أسسه عناصر من الجيش للإطاحة بالرئيس التركى وحكومته، التى أخذت سلطويتها فى التزايد، بدا أن الجنرالات والضباط المتمردين يقاتلون بعقلية حرب سابقة، وكان الأمر أشبه بما حدث فى تشيلى عام 1973 أو أنقرة عام 1980، أكثر منه ما يحدث فى دولة غربية حديثة عام 2016».

وتابع «جينكينز»: «قام ضباط الجيش بخطوتهم عندما كان الرئيس بعيداً عن المدينة فى عطلة بأحد المنتجعات، وسيطروا على المطار الرئيسى وأغلقوا جسراً فوق مضيق البوسفور فى إسطنبول، وأرسلوا دبابات للبرلمان وأنقرة، للسيطرة على مفارق الطرق الرئيسية، وأذاعوا بياناً على محطة (تى. آر. تى) الرسمية، أعلنوا فيه فرض حظر التجول، وأمروا الناس بالبقاء فى منازلهم، لكنهم لم يعتقلوا أياً من قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم، ولم يغلقوا محطات التليفزيون الخاصة أو اتصالات الهواتف المحمولة أو مواقع التواصل الاجتماعى، ما مكّن أردوغان ومساعديه من دعوة مؤيديهم للنزول إلى الشوارع لمقاومة الانقلاب».

من جانبه، أشار المحلل التركى الباحث فى مركز «كارنيجى أوروبا» سنان أولجن، إلى أن العائق الأكبر الذى واجه ضباط الجيش هو تصرفهم خارج تسلسل القيادة العسكرية، وبالتالى افتقروا للموارد الكافية للسيطرة على مواقع السلطة الرئيسية، وقال «أولجن»: «مخططهم لم يكن فعالاً، حيث فشلوا فى البداية فى السيطرة على أى منشآت عسكرية فى تركيا أو اعتقال أى من القيادات السياسية».

وقالت وكالة «فرانس برس» إن «أردوغان» الذى اتُّهم مراراً بالتدخل فى وسائل التواصل الاجتماعى ومحطات التليفزيون، استخدم تكنولوجيا الاتصالات الحديثة لإيصال رسالته للشعب التركى الذى جاوز الـ80 مليوناً، ليتفوق على تحرك المتآمرين ضده.

فى الذكرى الثالثة لمحاولة الانقلاب، قالت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، إنه بعد الانقلاب الفاشل فى عام 2016، شن «أردوغان» حملة قمع كاسحة، ما تسبب فى تراجع الاقتصاد التركى وانهيار العملة التركية، حيث أُعيد انتخابه بسلطات أكبر، وبينما يستشرى وباء المحسوبية والسلطوية وينتشر إلى أعمق مفاصل فى إدارته، يصوّت الأتراك هذه المرة بشكل مختلف، فلم يستخدموا أصواتهم ولا أقلامهم وإنما أقدامهم، بحسب الصحيفة، التى تشير إلى أنه وفقاً لإحصائيات الحكومة التركية والمحللين، ينزح الأتراك من البلاد بأعداد كبيرة فى هجرة للمواهب ورؤوس الأموال، بأسلوب يترجم حالة من فقدان الثقة، على نطاق واسع ومثيرة للقلق، فى رؤية «أردوغان».

ربع مليون تركى فروا خارج البلاد.. والطلاب ورجال الأعمال والأكاديميون على رأس قائمة الملاحقة
وتابعت الصحيفة أنه خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لم يقتصر الفرار من تركيا على الطلاب والأكاديميين فحسب، بل شمل رجال الأعمال وآلاف الأثرياء الذين باعوا كل ممتلكاتهم ونقلوا عائلاتهم وأموالهم إلى الخارج، ووفقاً للمعهد التركى للإحصاء، هاجر أكثر من ربع مليون تركى فى عام 2017، بزيادة 42% عن 2016، الذى شهد هجرة نحو 178 ألف تركى.

 "عقدة النقص"..مشاريعه السياسية فشلت فتقمص دور "السلطان"
لا يقتصر الحديث عن العقد التى تسيطر على الرئيس التركى من الناحية النفسية، على إصابته بالفصام أو بالشيزوفرينيا السياسية المزمنة التى جعلته يمارس سياسة «بهلوانية» تقلبت معها مواقفه على كل الحبال، ولكن أيضاً سلوكه يشير إلى عقدة نقص دفينة، ليس أدل عليها من سعيه للظهور بين زعماء العالم خلال حضوره قمة العشرين مؤخراً بـ«أوساكا»، حيث تعمد أن يسارع إلى أخذ مكان الرئيس الصينى متجاوزاً البروتوكول والقواعد المعمول بها فى المحافل الدولية، فقط من أجل الظهور وسط قادة الدول الكبرى وعلى رأسهم الرئيس الأمريكى دونالد ترامب من أجل الإيحاء بعدم وجود أزمة فى العلاقات المضطربة بين البلدين. يتقمص دور السلطان العثمانى، فتجده محاطاً بحراس يرتدون ملابس العصور الوسطى رغبة فى إظهار ماضيه العثمانى الذى يتفاخر به، ويعترف بكونه زعيم «العثمانيين الجدد»، الذين يسعون لعودة الهيمنة التركية على المنطقة واقتطاع أجزاء من أراضيها فى سوريا والعراق، بل والتمدد نحو شرق المتوسط، فتركيا تحتل الشطر الشمالى من جزيرة قبرص منذ عام 1974، لكن كل مساعى حل المسألة القبرصية قد تحطمت أمام مساعى «أردوغان» لـ«أسلمة» الجزيرة ومناكفة الغرب طمعاً فى موارد النفط والغاز الوفيرة المكتشفة حديثاً فى المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، ما جعل القارة العجوز تنقلب عليه وتجمّد مشروع توسيع عضوية الاتحاد الأوروبى الذى قدم «أردوغان» التنازلات تلو الأخرى على مدار نحو عقدين من حكم حزبه من أجل نيل رضا أوروبا.

وفى نفس التوقيت الذى شعر فيه «أردوغان» بخسارة أوروبا، كانت مصر تستضيف فى شهر فبراير الماضى القمة العربية الأوروبية الأولى من نوعها فى مدينة شرم الشيخ المصرية، ما جعل «أردوغان» يشتاط غضباً، فوجه لوماً لاذعاً للقادة الأوروبيين لحضور عشرات منهم إلى مصر، مستنكراً تلبيتهم لدعوة القمة تحت الرئاسة المصرية، إذ مثلت تلك المناسبة إعلاناً مدوياً لسقوط مشروع هيمنته على المنطقة، واعترافاً من الأوروبيين بأن دول المنطقة، وعلى رأسها مصر، هى الأولى بالشراكة الموثوقة، بدلاً من علاقة الابتزاز التى اتبعها «أردوغان» مع أوروبا مقابل منع تدفق المهاجرين إلى بلدان الاتحاد الأوروبى، بعد أن سجنهم فى معسكرات ومخيمات رغبة فى نيل رضا «بروكسل».

وبمطالعة العديد من المقالات التى تحلل شخصية «أردوغان»، فإن عقدة النقص لديه ترتبط بشعوره الدائم بالدونية نتيجة أفضال حلفائه عليه والتى تنكر لها جميعاً، ما خلق بداخله وسواساً قهرياً، بحسب الكاتب الإماراتى محمد المسكرى، الذى ذكر أن الوسواس داخل «أردوغان» يتمثل فى حليفه السابق الذى انقلب عليه، الداعية التركى فتح الله جولن، ونفس المبدأ اتبعه «أردوغان» مع حليفه السابق الرئيس عبدالله جول.

ويشعر «أردوغان» بعقدة نقص وحقد دفين تجاه مصر ونجاحاتها خلال السنوات الأخيرة بعد الإطاحة بالإخوان الذين راهن عليهم من أجل السيطرة على المنطقة، «هذا السلوك من جانب أردوغان ينم عن حقد دفين تجاه ما يحققه الشعب المصرى وقيادته من مُكتسبات ونجاحات متنامية على كافة الأصعدة»، هكذا وصف وزير الخارجية سامح شكرى، تصريحات «أردوغان» الشهر الماضى، واتهاماته لمصر بعد وفاة السجين محمد مرسى خلال جلسة محاكمته.

وبدوره، قال المحلل السياسى التركى جواد جوك، لـ«الوطن»، إن «أردوغان» استغل كل التطورات الداخلية والخارجية من أجل تشويه خصومه خلال انتخابات إسطنبول، وكان على رأس تلك الأمور التى استغلها هى علاقاته المتوترة بمصر، حيث قال إن «مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو هو مرشح الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى لانتخابات إسطنبول»، مخيراً سكان إسطنبول بين انتخاب مرشح حزبه الذى خسر الانتخابات، بن على يلدرم، أو اختيار الرئيس السيسى، فى إشارة لمرشح المعارضة إمام أوغلو، ليفوز مرشح المعارضة، ما جعل «أردوغان» فى موقف لا يحسد عليه، وتابع «جوك»: «توتر علاقاته مع مصر هاجس مسيطر عليه، فهو يرى مصر كمنافس له شخصياً، ولا نفهم ما علاقة مصر والشعب المصرى الصديق بالانتخابات والأوضاع الداخلية فى تركيا، ولكن أردوغان لديه هاجس وخرب علاقاتنا بمصر ودول الخليج والدول العربية بلا أى مكاسب أو منافع من وراء هذا، فهو يتصرف من منطلق مصالحه الشخصية ومجده الشخصى».

جنون العظمة ..نظريات المؤامرة وأحلام النفوذ تدفع بتركيا إلى "العزلة عن العالم"
قبل نحو 9 أعوام كانت العلاقات الخارجية التركية فى أفضل صورها، دولة لا تتدخل فى شئون أحد، لا يوجد لديها أى مشكلات مع الآخرين، لكن الأمور تغيرت إلى النقيض من «صفر مشكلات» إلى «مائة بالمائة مشكلات» بسبب ما يصفه محللون بأنه حالة «جنون عظمة» تنتاب الرئيس التركى، حيث حدث التحول بين ثلاث محطات؛ الأولى: الأحداث التى عرفت بـ«الربيع العربى» التى اندلعت نهاية عام 2010، والمحطة الثانية احتجاجات «جيزى بارك» فى «إسطنبول» التى كادت تطيح بالرئيس ونظامه، والمحطة الثالثة محاولة الانقلاب العسكرى التى وقعت منتصف يوليو 2016.

"صلاح": "العدالة والتنمية" اعتبر الاضطرابات العربية فرصة ذهبية لخلق أنظمة تابعة لـ"أنقرة"
يرى مصطفى صلاح، الخبير فى الشأن التركى، أن تركيا اعتمدت مقاربة صاغها أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء السابق، ووزير الخارجية الأسبق، تعتمد على فكرة العمق الاستراتيجى، أى محيطها الإقليمى الأكثر قرباً، بعيداً عن التركيز على المناطق البعيدة.

ويضيف: «وبالتالى فرضت التغيرات التى حدثت عديداً من الفرص والتحديات التى جعلت حزب العدالة والتنمية يسعى للاستفادة منها وتوظيفها، وخلق بيئة جديدة من السياسة الخارجية التركية القائمة على الاستقلالية التى تعكس وجهة نظر حزب العدالة والتنمية تجاه رؤيته لمحيطه الإقليمى».

وتابع: «وبالتالى بات العدالة والتنمية هو الذى يرسم السياسة الخارجية التركية وفق رؤيته وليس وفق المقدرات الخارجية والظروف الخاصة فى المنطقة والساحة الدولية، لتتحول السياسات من صفر مشكلات إلى مشكلات فى كل مكان».

ويتابع «صلاح»: «هذا ارتبط بقناعة الحزب الحاكم بفكرة مد النفوذ أو ما سمى بالعثمانية الجديدة، ما أدخل أنقرة فى خلافات مع دول إقليمية كبيرة يوماً ما كانت تعتبر تركيا جسراً لعلاقاتها الخارجية». وحول مرحلة الاضطرابات العربية التى أطاحت بعدة أنظمة سياسية منذ نهاية عام 2010 وبدايات عام 2011، قال «صلاح» إن «المتغير الدولى والعربى شكل أحد الدوافع الأساسية لدى الأتراك لانتهاج سياسة خارجية أكثر تدخلاً فى المحيط الإقليمى فى ظل الفراغ العربى الذى خلفته الاضطرابات فى الدول العربية، فرأت أنقرة فى ذلك الوضع فرصة ذهبية لاستغلال الموقع الجغرافى القريب من المنطقة العربية للتأثير فى عملية القرار السياسى فى الدول العربية».

ويلفت إلى أن الأتراك اعتمدوا فى ذلك على بعض الجماعات أو التيارات الإسلاموية لتحقيق السياسة الخارجية التركية وفق استراتيجية حزب العدالة والتنمية من خلال ربط سياساتها بهذه التيارات ودعم وصولها إلى السلطة فى بلدانها، وبالتالى خلق أنظمة تابعة للدولة التركية وتدين لها بالولاء واستعادة أحلام الخلافة التى تراود «أردوغان»، خاصة بعد ما حدث فى سوريا والعراق والتى أفرزت محددات ومتغيرات جديدة على السياسة الخارجية التركية.
"دميرتاش": سياسات الحزب الحاكم انعكست بآثار مدمرة على الاقتصاد.. ولم يعد بمقدورنا النفاذ إلى أسواق الشرق الأوسط

أما عن العلاقة مع الدول الغربية والولايات المتحدة، فيقول الكاتب التركى شيركان دميرتاش، إن «تركيا منذ أحداث احتجاجات جيزى عام 2013 لم تعد تمتلك سياسة خارجية حقيقية وإنما سياسة داخلية تنتشر عبر الحدود»، بحسب مقال كتبه فى صحيفة «حرييت» التركية فى 29 يونيو الماضى. يضيف «دميرتاش»: «احتجاجات جيزى دعت الحزب الحاكم لتشكيل رؤية وطنية جديدة للسياسة الخارجية تقوم على توجيه اللوم على الكتلة الغربية بأثرها فى التآمر على النهوض الاقتصادى التركى والتأثير على سياسة الدولة التركية»، وذلك وفقاً للحزب الحاكم.

يتابع الكاتب التركى: «تشوهت العلاقات أكثر مع الغرب مع وقوع محاولة الانقلاب العسكرى منتصف يوليو من عام 2016 وما تبعها من انتهاك واضح للحقوق والحريات وانتهاك سيادة القانون، فضلاً عن عزلة تركيا حيال منطقة الشرق الأوسط بدليل عدم قدرة تركيا على النفاذ إلى الأسواق الكبرى فى منطقة الشرق الأوسط».

ويلفت إلى تضرر علاقات تركيا مع مؤسسات غربية أساسية أولها الاتحاد الأوروبى الذى لم يعد هناك أمل فى مباحثات الانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبى، والتى كانت تعكس رغبة تركية فى الانضمام إلى العالم الحديث، وفق الكاتب. وقال «دميرتاش» إن العلاقة بين تركيا كذلك ومجلس أوروبا تضررت فى ظل تمسك هذه المؤسسة بالديمقراطية ومسار التحول الديمقراطى، وأدى التدهور المستمر فى هذه المجالات إلى تشديد المجلس من خلال هيئته البرلمانية إجراءات المراقبة والمتابعة على الداخل التركى. وأشار الكاتب كذلك إلى توتر العلاقات التركية مع حلف شمال الأطلنطى «ناتو» فى ظل التقارب التركى مع روسيا ومساعى «أنقرة» للحصول على صفقة «إس 400» الدفاعية الروسية التى أثارت الغضب لدى الولايات المتحدة.

ويوضح الكاتب التركى أن الركائز التقليدية للسياسة الخارجية التركية قامت على أساس الدبلوماسية والتوازن فى السياسات الخارجية، ويضيف: «لا مفر أمام الحكومة الحالية من إعادة صياغة استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية التركية تقوم على المبدأين السابقين، إذا أرادت تجنيب الدولة المخاطر التى انعكست بآثار مدمرة على الاقتصاد التركى وأثرت على مصداقية تركيا أمام العالم».

 "المُنقلب".. يقصى أصحاب الشعبية فى الداخل ويتعامل فى الخارج "حسب المصلحة"
مشروع شخصى عمل لأجله، أحلام «أردوغانية» فى الداخل والخارج راودت صاحبها لاحتكار السلطة فى البلاد وإقصاء كل من تبدأ شعبيته فى الانتشار، إلى جانب العمل لمصلحة مشروعه فى الخارج بالانقلاب على حلفائه من أجل تحقيق أهداف «العثمانية الجديدة»، إنه الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» الذى طالما أحب السلطة ولم يحب الشراكة فيها يوماً ما ليسعى إلى إقصاء رجال الصف الثانى واستبدالهم بمغمورين حتى يظل نجمه لامعاً.

"عبدالفتاح": لديه نهم لاحتكار السلطة.. ويسعى للقضاء على "الصف الثانى" ليصبح قائداً أوحد للبلاد بلا شريك
الدكتور بشير عبدالفتاح، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، يقول إن «أردوغان» لديه نهم كبير لاحتكار السلطة والبقاء فيها لأطول وقت ممكن، ونظرته للسياسة تكون دائماً أن يكون هو القائد بلا شريك، فلا يريد شركاء ولا وكلاء ولا نواباً، ولكن يريد مساعدين فقط، مضيفاً أن كل شخص نجم سياسى فى تركيا، على سبيل المثال رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، أو اقتصادى مثل «على باباجان» وزير الاقتصاد والخارجية السابق، يريدهم أن يخدموا نجوميته واستمراريته واحتكاره للسلطة.

وتابع «عبدالفتاح» لـ«الوطن» قائلاً إن أردوغان لا يسمح بالمشاركة أو المراجعة أو أن يحاسبه شخص ما، ما دفعه إلى التخلص من كبار القادة والشخصيات السياسية التى من الممكن أن تشكل له منافساً، مثل رئيس الجمهورية التركى السابق عبدالله جول، أو أحمد داوود أوغلوا، أو على باباجان، كل هؤلاء يصلحون لمنصب رئيس الجمهورية، لذلك أراد أن يطيح بهم فى مسعى للقضاء على الصف الثانى والوكلاء والنواب، ويظل هو على رأس السلطة، مستطرداً: «يطيح بالشخصيات ذات الشعبية، كلما زادت شعبيتها أو نفوذها أو مكانتها لدى الشارع ويأتى بوجوه جديدة شابة لا يعرفها الشارع وأمامها مسافة طويلة حتى تلحق بهم». أما عن انقلابه على التحالفات الخارجية، فقال «بشير» إنه يصطدم مع الخارج حينما تصطدم أجندات الخارج بمطامع أردوغان، فالرجل يريد أن يفرض هيمنة على المنطقة ويريد أن يكون زعيماً لها فى إطار «العثمانية الجديدة»، وأضاف بشير: «كل من لا يعمل له لخدمة مشروعه الشخصى الأردوغانى يصطدم به، حدث مع مصر وسوريا والعراق والسودان وسيحدث مع ليبيا».

"سعيد": أى شخص يخلق مساحة مشتركة بين القوى السياسية يصبح منبوذاً من جانب النظام والعلاقات الخارجية لأنقرة تعانى ضعفاً
الدكتور كرم سعيد، الخبير فى الشأن التركى بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، قال إن أردوغان لا ينقلب على حلفائه فقط، فأى شخص قادر على اختراق الشارع التركى وتحقيق وجود أو يخلق مساحة مشتركة بين القوى السياسية فى تركيا يصبح منبوذاً أو غير مرغوب فيه، ولدينا نماذج على ذلك، أبرزهم صلاح الدين دميرطاش الذى استطاع أن يحول حزب الشعوب الديمقراطى من حزب يقتصر على أقلية بعينها إلى حزب أوسع يضم الأتراك بدلاً من أن يقتصر على الأكراد فقط، إضافة إلى أكرم داوود أوغلو، الذى استطاع أن يحقق نجاحاً غير مسبوق بالفوز ببلدية إسطنبول مرتين، واستطاع أن يجمع كل اتجاهات وتوجهات المعارضة وأن يبنى تياراً معارضاً مختلفاً من نوعه فى تركيا يضم اليسار والعلمانيين والإسلاميين وغيرهم.

وأضاف «سعيد» لـ«الوطن»: أنه «كان هناك قبل ذلك السياسى التركى محرم إينجه، الذى استطاع أن يحصل على أكثر من 30% من الأصوات فى الانتخابات الرئاسية عام 2018، واليوم يظهر ويعود إلى الساحة من جديد على باباجان، وزير الاقتصاد السابق، ووزير الخارجية السابق، الذى يحظى بثقة هيئات المال الغربية، وهو رجل تكنوقراط موثوق به ولديه رصيد تقليدى فى الشارع، وكان أحد الأعمدة الرئيسية فى بناء التجربة الديمقراطية، بل الأهم التجربة الاقتصادية التى شهدتها تركيا منذ عام 2002».

أما على المستوى الخارجى، فقال «سعيد» إن «تركيا تشهد ضعفاً فى مناعتها الإقليمية الدولية منذ فترة، ولم تشهد مجموعة من الأزمات على المستوى الخارجى كما تشهدها الآن، التوتر حادث مع الولايات المتحدة، ومع الاتحاد الأوروبى، ومع المحيط الإقليمى العربى باستثناء قطر، وهو يحاول أن يبحث عن دوائر أخرى ويحاول أن يناور، يذهب إلى أعلى فى علاقاته ثم يندرج وينحدر إلى أسفل وفقاً للمصلحة، وكان هذا نموذجاً واضحاً فى زيارته الأخيرة إلى الصين، وبسؤاله عن أوضاع أقلية الإيجور فى إقليم تشانج يانج الأقلية المسلمة، أردوغان فى وقت من الأوقات كان يصف سلوك الحكومة الصينية تجاه هذه الأقلية بالإبادة»، وتابع: «بالنظر إلى حاجته للتعاون الاقتصادى مع الصين ومحاولة بناء علاقة اقتصادية مع الصين تمكنه من الابتعاد عن الضغوط التى تفرضها عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى الآن، تحدث عن أن أقلية الإيجور تعيش حياة كريمة، ومن يحاول تشويه دور تركيا أو تصريحاتها تجاه أقلية الإيجور إنما هو يسعى لدق إسفين بين تركيا والصين».

أضاف «كرم»: «كانت العلاقات بين مصر وتركيا قوية ووصلت إلى الذروة بعد وصول جماعة الإخوان إلى السلطة، وبعد 30 يونيو 2013 تراجع منحنى العلاقة، كما كانت هناك علاقة وطيدة مع السعودية، وصلت إلى بناء المجلس الاستراتيجى المشترك فى عام 2014، اليوم هناك مساحة من التوتر ووصلت الخصومة إلى الذروة، وكذلك مع البحرين والإمارات وسوريا وليبيا وغيرها من الدول».