بقلم : د/ عايدة نصيف

مصر منذ فجر التاريخ هي مصدر الأمن والأمان للجميع، وليس أدل على ذلك احتضانها لكثير من أنبياء العهد القديم ومن بينهم على سبيل المثال الآباء إبراهيم ويعقوب والنبى موسى الذي تهذب بحكمة المصريين، ويوسف الصديق الذي جاء إلى مصر أيام فرعون حتى أصبح وزيرا، بل نجد أكبر مثال على أن مصر خطاها الأنبياء والقديسون هي رحلة العائلة المقدسة، القديسة العذراء مريم وابنها الطفل يسوع ومعهم يوسف النجار.. 
 

جاءت العائلة المقدسة إلى مصر باركت أرضها واحتمت فيها من بطش هيرودس عندما أصدر قرارا بقتل جميع الأطفال، فجاءت العائلة المقدسة إلى مصر.. وقد سارت العائلة المقدسة في البلاد من أقصاها إلى أقصاها لتباركها.
 

احتمت وباركت؛ احتمت في حضن مصر، وباركت أرض مصر، فقد نشرت جامعة كولون بألمانيا لأول مرة بردية أثرية ترجع إلـى القـرن الرابع الميلادى، تتحدث عن فترة وجود السيد المسيح والعائلة المقدسة في مصر، مؤكدة أن طفولـة السيد المسيح في مصر استمرت ثلاث سنوات وأحد عشر شهرًا. 
 

والبردية التاريخية مكتوبة باللهجة القبطية الفيومية، وتؤكد أحد المصادر المهمة أن البردية تؤكد أن البركة حلت بمصر وأن شهر بشنس هو أكثر شهور السنة بركة، ولذلك نجد الكنيسـة القبطية تحتفل في اليوم الرابع والعشرين منه (يوافق يوم ١ يونيو) كل عام بـذكرى دخـول العائلـة المقدسة إلى مصر.
 

إن رحلة العائلة المقدسة لمصر تحمل الكثير من المعانى والقيم التي يجب على الجميع أن يتحلوا بها، أهمها أن مصر بلد للسلام والاطمئنان، وأن رحلة المسيح فيها ملأت ربوعها بالبركة، فكل الأديان السماوية أكدت أن مصر هي واحة الأمان، كما أن العظة الكبيرة من هذه الرحلة تتمثل في الاقتداء بهؤلاء العظماء في طريقة عيشهم البسيطة، وتعاملهم بالمودة مع الناس.. 
 

فمصر.. أرض التعايش والضيافة؛ أرض اللقاء والتاريخ والحضارة والسلام والأرض المباركة عبر العصور بدم الشهداء والأبرار الثمين؛ والتي عاش فوقها القديس يوسف والعذراء مريم والطفل يسوع والكثير من الأنبياء.
 

وعندما نتوقف عند مصطلح. "العائلة المقدسة ـ" نجده هو مصطلح ديني تاريخي؛ فالعائلة تتكون من السيد المسيح وهو ما زال طفلًا في حضن أمه "السيدة مريم العذراء"؛ و"يوسف النجار" الذي شاركها في رحلة الهرب من الطغاة؛ فهربت بالغلام بالطفل وهو في مهده إلى مصر أرض الأمن والأمان على مر التاريخ والأحقاب؛ فزحفت العائلة المقدسة من فلسطين عبر طريق العريش؛ وصولًا إلى حصن "بابليون" المعروف اليوم بـ "مصر القديمة".. 
 

وتحركوا نحو صعيد مصر للاختباء فترة من الزمن؛ تحت حماية العائلات والقبائل المصرية القاطنة في تلك البقاع؛ ثم عادوا إلى الشمال مرورًا بوادي النطرون في صحراء طريق مصر ــــ الإسكندرية الحالي؛ واجتازوا الدلتا؛ ثم واصلوا طريق العودة عبر سيناء مرة أخرى إلى فلسطين من حيث أتوا، وكانوا في كل هذه المراحل في كنف مصر التي قامت بحمايتهم في كثير من الأماكن التاريخية والمعروفة الآنبالأماكن المقدسة والأثرية والتي يأتى إليها الجميع من بلدان العالم للتبرك بها في أرض مصر الحبيبة.

 

استمرت أكثر من ثلاث سنوات ذهابا وإيابا قطعوا فيها مسافة أكثر من ألفى كيلو متر ووسيلة مواصلاتهم الوحيدة ركوبة ضعيفة أو السفن أحيانا في النيل وبذلك قطعوا معظم الطريق مشيا على الأقدام محتملين تعب المشي وحر الصيف وبرد الشتاء والجوع والعطش والمطاردة في كل مكان فكانت رحلة شاقة بكل معنى الكملة تحمّلها السيد المسيح وهو طفل مع أمه العذراء والقديس يوسف.
 

ولذا فهذه الرحلة تحمل دلالات ومعانى حضارية وتاريخية وثقافية بل تحمل في طياتها مفاهيم إنسانية راقية؛ وتتمثل المعانى التاريخية أنها تحمل تراثا إنسانيا عظيما ملكا لكل الإنسانية وروعته أن هذا الحدث التاريخى والتراثى في مصر التي تمثل قلب العالم. 
 

والمعنى الدينى الروحى ويتمثل في البعد الكتابي حيث وردت نصوص عنها في العهد الجديد: «إذا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِى حُلْمٍ قَائِلًا: «قُمْ وَخُذِ الصَّبِى وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إلى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أن يَطْلُبَ الصَّبِى لِيُهْلِكَهُ». فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِى وَأُمَّهُ لَيْلًا وَانْصَرَفَ إلى مِصْرَ. وَكَانَ هُنَاكَ إلى وَفَاةِ هِيرُودُسَ. لِكَى يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِى الْقَائِل: «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْني.« (مت ٢: ١٣-١٥)، ووردت نبوءات عنها في العهد القديم: «هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إلى مِصْرَ، فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا» (إش ١٩: ١)، «مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْني» (هو ١١: ١)، (مت ٢: ١٥).
 

بل هناك بعد أثرى وحقيقة أثرية: حيث ما زالت هناك آثار تؤكد مجيء العائلة المقدسة لأرض مصر منها: أديرة وكنائس أثرية وهياكل ومذابح أثرية ومغائر قديمة، ومنها صخور وأحجار، وآبار وأشجار، وهذه الآثار تمتد على طول البلاد الواقعة على مسار الرحلة، ويضاف لذلك الأيقونات الأثرية والمخطوطات والقطع الفنية، والأديرة والكنائس الأثرية القديمة.
 

وهناك أيضا بعد حضاريًّ يمثل جزءا من الهوية المصرية وتلامس مع البعد التاريخي، فرحلة العائلة المقدسة في أرض مصر هي من المكونات الأساسية للحضارة المصرية القبطية.
 

بل زادت أهمية أرض مصر بين العالم لأنها الأرض الطيبة التي قدمت الحماية واحتضنت العائلة المقدسة منذ وقت مبكر من التاريخ، بل بنى في معظم مسار العائلة المقدسة الأديرة والكنائس والتي عمّرت مصر بالإيمان بالله كما حملت رحلة العائلة المقدسة قيما إنسانية رائعة هي قيم المحبة والسلام والتعايش على أرض مصر.