فى بيت جدتى من أمى عشت طفولتى، وكانت أيامى وسنوات عمرى الأولى، تفتحت عيناى لأجد نفسى فى أحضانها فقد تركنى أبى وأمى وسافرا للعمل خارج مصر.

لم أكن أراهما إلا كل صيف ولأيام قليلة لا تتجاوز أسبوعين كل عام، كان ذلك كل نصيبى من وقت أمى وأبى، وبعد عامين من سفرهما حملت أمى وأنجبت أخى الوحيد الذى فرحوا بقدومه فرحة عارمة فلم يتركوه كما تركونى، فعاش طفولته منذ المهد متمتعا بحنانهما ورعايتهما ووجوده بين أحضانهما، وظللت أنا بعيدة عنهما محرومة من الأمومة والأبوة فى آن واحد على الرغم من كل محاولات جدتى لملء الفراغ الذى تركاه فى طفولتى، لكنى ظللت أفتقدهما بل كنت أشعر أننى فى منزلة متأخرة من اهتماماتهما التى كانت قاصرة على أخى الوليد، وعاما بعد عام ازداد افتقادى لهما وخاصة بعدما التحقت بالمدرسة، حيث كنت أرى الأمهات والآباء يحضرون للمدرسة لاصطحاب أبنائهم والمشاركة فى حفلات المدرسة، كنت أرى فرحتهم لأبنائهم فأشعر باليتم وهما على قيد الحياة، وعلى الرغم من ذلك ظللت أحبهما دون حتى أن أعرفهما عن قرب أو أعتاد الحياة بين أحضانهما، فحبهما يولد فى أعماقنا، فكنت انتظر يوم عودتهما لإجازة الصيف بفارغ الصبر ولكن بعد أن أراهما للأيام الأولى أشعر بفراغ غريب وكأن الاقتراب منهما وهم، فكل اهتمامهما كان موجه لأخى بالرغم من أنه المفروض والطبيعى أن يحدث العكس، فيعوضانى عن شهور غيابهما ويشعرونى بفقدانهما لى ولكن كل ما كنت أراه بعض الهدايا والملابس فأبحث عن الحب والاهتمام فى أعينهما فلا أجده!
 
‎وتمر الأيام لتأخذ السنين من صحة جدتى وعافيتها فتمرض وتفارق الحياة وأنا فى الثانية عشر من عمرى، كان لفراق جدتى مرارة كبيرة فأنا لم أفارقها منذ أن وعيت على الدنيا، بفراق جدتى عرفت الحزن لأول مرة، حزن مختلف الملامح، ربما كنت قبل ذلك حزينة لبعاد أبى وأمى ولكنى كنت أعرف أنهما هناك فى مكان ما وإننى سوف أراهما ولو كل عام لكن الموت أمر مختلف فالفراق الأبدى يختلف فى عنف ألمه وحزنه ومرارته، نعم لقد عرفت معنى الموت لأول مرة برحيل جدتى.
 
اضطر أمى وأبى أن يتركا عملهما فى الخارج ووجدا أنه الوقت المناسب للعودة لأجد نفسى أعيش معهما لأول مرة فى حياتى فى منزل يضمنا جميعًا كأسرة، غريبة أنا بينهما وهما دمى، أحب أخى ولكنى لا أعلم لماذا يميزونه عنى؟ فله الغرفة الكبيرة بحمام مستقل تطل على أجمل منظر ولا بد أن يتوافر الطعام الذى يحبه هو بصرف النظر إن كنت أحبه أم لا، ولا بد من الاهتمام بملابسه ومظهره بشكل يفوق التصور وإذا عاد يوم من المدرسة غاضبا أو حزينا بسبب خلاف مع أحد أصدقائه لا تهدأ أمى حتى تذهب فى اليوم التالى للمدرسة لتحل له مشكلته لكى لا يحزن!
 
‎حتى جعلونى أصطنع الغضب يومًا لكى أرى ردة فعلهم تجاهى فكانت صدمتى أن أحدا منهما لم يهتز ولم يهتم، فاستسلمت للأمر الواقع ووضعت همى فى دروسى وقبلت بواقع أننى مواطنة من الدرجة الثانية فى بيت أسرتى، واستغرقت فى دراستى وأصبحت من المتفوقين.
 
‎كان أخى معى فى نفس المدرسة ولكنه كان يصغرنى بعامين، وكان جميع المدرسين يقارنون بينى وبينه لأنه كان ليس بدرجة تفوقى الدراسى وكانوا يقولون ذلك لأمى التى لم تكن تنصت إلا للجزء الخاص بأخى، أخى الذى كان يتعامل معى على أنه الأعلى وأننى أنا الأدنى!
 
‎سألت نفسى كثيراً لماذا؟ ولن أنسى أبدًا سؤالى لجدتى وهى مريضة هل أنا فعلاً ابنتهم، وكانت إجابتها لى كيف أسأل هذا السؤال وأنا أشبه أمى أكاد أكون صورتها فى المرآة وحاولت أن تجمل لى الصورة فى شرح الظروف وأنهما يعملان من أجل بناء مستقبلنا فأشفقت عليهما والتمست لها العذر فيما تبرره برغم صغر سنى لأنى لم أجد سواها فى هذا العالم الواسع يحبنى ويشفق على.
 
وظللت أدور حول نفسى فى حلقة مفرغة لا يتوقف عقلى عن التعجب والرفض ولا يهدأ نزيف قلبى ولا دمع عينى، لكن الحياة تمضى والسنين تمر، ونجحت فى الثانوية العامة ولا أنكر أن والدى أدخلنى الجامعة التى أردتها ولحق بى أخى ولكن فى تخصص مختلف ولكن استمر نزيف التفرقة فى المعاملة تجاهنا فأنا أذهب إلى الجامعة بمفردى ولكن أخى من اليوم الأول قاما بشراء سيارة خاصة له!
 
‎لقد شعرت بالخجل حين لاحظ أصدقائى ذلك، وقالت لى الصديقة المقربة لى أنها كانت تتعجب حين تسمع أن فى كثير من القرى يتم التفرقة بين المولود الذكر وبين المولودة الأنثى حتى رأت ما يحدث معى بالرغم من المستوى العالى من التعليم والمستوى الاجتماعى لأبى وأمى.
 
‎الظروف تصنع الإنسان وتؤثر فيه وتظهر بصماتها مع مرور السنين، فقد تخرجت من الجامعة بتفوق وحصلت على عمل فى مكان متميز وكأنى كنت أحارب القهر بإثبات الذات ولكن روحى ظلت متعطشة للحب والحنان، كنت أعمل كثيرًا وأحافظ وأدخر من مالى حتى أكون مستقلة حتى فى احتياجاتى المالية ربما لأنى لا أشعر بالأمان وأنا وسط عائلتى وأهلى، حتى التقيت الحب ووجدته أمامى فى مكان عملى، زميل لى منذ أول يوم التقيت به وهو لا يخفى اهتمامه ومع الوقت تحول الاهتمام إلى حب، فهو لا ينام قبل أن يتحدث معى ولا يذهب إلى أى مكان دون أن يخبرنى وكأنه يريدنى أن أشاركه كل كبيرة وصغيرة فى حياته، كانت كلماته تزيدنى عشقًا، ولما لا وأنا إنسانة تربت على التفرقة والتجاهل وافتقدت لسنوات الإحساس بالحب والحنان والاهتمام فكان من الطبيعى أن أميل لليد التى تعطينى الثقة فى نفسى وتشعرنى أنى استحق الحب، وبعد عام طلب منى أن يتقدم لأهلى لنتزوج وكدت أطير فرحا فمن اليوم سوف تكون لى حياة جديدة مع من أحب وتكون لى أسرة وأطفال أربيهم على الحب ولا أتركهم أبدًا.
 
كانت الصدمة أن رفضه والدى وكانت حجته الواهية أنه لا يرتاح للحديث معه وأنه يرغب أن يزوجنى شخصا ميسور ماديًا أكثر منه ولكنى أصررت على رأيى وتصديت للجميع وبالفعل وافق أبى فى النهاية وتم زواجنا بعد ستة أشهر من الخطوبة، التى كنت أرغب أن تمر سريعًا لما لقيته من مصاعب فى التعامل مع أمى فهى لا تستطيع حتى أن تجاملنى، فذات يوم حاولت أن أمزح معها..
 
‎أنا: ماما لما أخلف إن شاء الله أبقى أجيب ليكى البيبى علشان أروح الشغل.
 
‎ماما: وتجبيه ليه! وديه لمامة جوزك، أخوكى أول لما يتجوز آخد ابنه.
 
‎مر يوم فرحى بسلام وذهبت إلى منزلى وكلى أمل بحياة سعيدة مع من أحببت، ولكن ليست كل الأمانى ممكنة، فقد لاحظت على زوجى من اليوم الأول أشياء غريبة، فطباعه توحى بأنه شخص غير طبيعى ومع مرور الأيام تأكد لى أنه مريض نفسى، يتكلم مع شخص غير موجود معنا وعندما أحاول التحدث معه يقوم بضربى ضربا مبرحا، ثم يجلس تحت قدمى يبكى كالطفل ويطلب منى أن أسامحه، ذهبت إلى أكثر من طبيب وعرفت مرضه ولكنه كان يرفض العلاج.
 
وحاولت المستحيل معه ولكنى فشلت ولم أعد أطيق الحياة معه خاصة بعد أن تكرر ضربه لى، وذات يوم قام بضربى ضربا مبرحا، وكدت أن أموت بين يديه، وخرجت من بيته وقررت ألا أعود، وبالفعل طلبت الطلاق لأخرج من بيته كما دخلته فنحن لم نعش معا كزوجين طبيعيين وكان دائما يعلق فشله فى أن تكون بيننا علاقة على أن العيب فى وليس فيه، وعلى الرغم من ذلك تعاملت معه بإحترام فلم أذهب إلى قسم البوليس لأثبت ضربه لى فأحصل على الطلاق مباشرة ولكنى طلبت منه الطلاق لأن الحياة أصبحت مستحيلة، ورفض الطلاق وأقسم أن يجعلنى أركع أمامه طالبة الرحمة.
 
وأخذنى أبى إلى محامى رشحه له أحد أصدقائه وكان معروف بكفاءته فى هذه النوعية من القضايا، وبدأ المشوار لمدة عام حتى استطعت أن أحصل على الطلاق.
 
استطعت خلال فترة عملى وقبل زواجى وبعده أن أدخر من مالى ما أستطعت لأشترى لنفسى شقة صغيرة ولكنها فى مكان جميل وأسستها بأثاث بسيط لأنى كنت أشعر بعدم الرغبة فى العودة لمنزل أسرتى فذكرياتى هناك كانت كلها حرمان وألم.
 
‎بعد طلاقى بشهر واحد تقدم للزواج منى المحامى الذى كان يباشر قضية طلاقى، والعجيب أن أبى وأمى كانا فى قمة السعادة وكانا يدفعانى دفعًا للقبول، وكأنهما يريدان التخلص من شعورهما بالمسؤولية تجاهى.
 
وبالرغم من أن شقته لم تكن جاهزة بعد، فاقترح أبى أن نتزوج فى شقتى حتى يستلم هو شقته ونقوم بإعدادها ولا شىء يجعلنا نؤجل الزواج!
 
‎وتزوجته ومرت الشهور الأولى من زواجنا إلى أن اكتشفت حقيقته وهى أنه مدمن للسيدات وخاصة الأكبر منه سنًا فالمهم ما تملك من مال! أنا فى النهاية زوجة أغار على بيتى وعلى زوجى، أريد أن أعيش حياة مستقرة مثل كل البشر ولكنى شعرت أنى وكأنى أموت كل يوم حزنًا على نفسى وعلى كرامتى وحين واجهته واحتد النقاش بيننا قام بضربى وحبسى فى المنزل.
 
واستمر الحال على ذلك حتى استنجدت بأبى الذى كان مترددا فى طلبى الطلاق بحجة نظرة الناس لى وماذا سيقولون عنى ولم يفكر فى أنا كابنته التى ضُربت وأُهينت حتى جاء فرج الله وطلقنى هو برغبته لأنه وجد صيدا ثمينا.. امرأة تكبره بعشر سنوات وتملك الكثير من المال وكان هو من تولى قضية طلاقها أيضا!
 
‎حمدت الله وسجدت شكرًا وتمنيت له أن يعطيه الله بقدر ما فعل.
 
‎اليوم أنظر لنفسى وأستحضر روح جدتى بداخلى التى كانت تقول لى أنى سأكون امرأة قوية، فقررت ألا أسجن روحى فى سجن اليأس أو الظلم فكلها سجون تمنعنا من الاستمتاع بالحياة، قررت أن أفتح الباب وأحرر روحى من سجنها، لن أوقظ الآلام بأعماقى، سأبقيها فى صدرى ولن أسمع حتى أنينها، سأنجو بنفسى وأنسى وجع السنين فالحياة ستظل تحمل لنا الكثير.
 
إن الحياة اختيار، وأنا اخترت أن أحيا بالأمل، لعل الحب يوما يأتى، فى أعماقى يقين أنى امرأة تستحق الحب، فمن يعلم ما الذى لا تزال تخبأه لى الحياة.
نقلا عن مبتدا