خالد منتصر
هذا عنوان مجموعة قصصية للكاتب العراقى محمد حياوى، صادرة عن دار نشر شهريار بالبصرة، تقع المجموعة فى 92 صفحة من القطع المتوسط وتضم 49 قصة قصيرة جداً، وبعض القصص متطرف فى اختزاله وتكثيفه، وأعتقد أنها من التجارب النادرة فى أدبنا العربى بهذا الكم المتنوع من الاختصار المكثف الممتع، وكأنك أخذت ثمالة عصارة الروح ونواة الخلية التى تحمل كل الأسرار، لا أريد أن أطيل عليكم تاركاً المساحة لبعض القصص ومهمتكم ومتعتكم الاطلاع على باقى المجموعة.

القصة الأولى: سيلْفِى مع أَنجلِينا جوْلِى
أَيْقَظَت الْأُمّ ابْنَتها المُرَاهِقة المَهْوُوسَة فى الأَفْلام بَعْدَ أن تَناهى إِلى سَمْعها صَوْت أَنجلِينا جوْلِى ونَشِيجهَا وسط أطْلال أَيْمُن الموْصِل، «انهْضِى يا اِبْنَتى. إنّها أَنجلِينا جوْلِى تجوب الخرائِب فَوْقَنَا. إنَّها فُرْصتكِ لتحْقِيق حُلْمكِ بالتَّصْوِير معها». مسَحَت الفَتاة عَيْنيهَا وعَدَّلَت شعْرها وراحَت تتَسلَّق الأَنْقاض. صادفَها كَثِير من الجثث فى طَريقها إِلى الأعلى. وهُناك، وجدَت أَنجلِينا جوْلِى تَجْلِس باكيَة، وما أَن رأتها مُقْبِلة، حتَّى ابْتَسمَت لهَا وفرَّدت ذِراعيها لتَحضنها، فأخْرَجَت هاتِفها والتقطَت سيلفِى مَعَهَا وعادَت مُسْرِعَة إِلى الأَسْفَل لِتُرِىَ أُمّها الصُّورة، لكنَّها اِنْدهشَت حين لَمْ ترَ وجْههَا بجانِب وجْه أَنجلِينا المُبْتَسِم وسط دُموعها. لقد نَسِيَت أَنَّها مَيْتة مُنْذُ أَشْهر تحتَ الأَنْقاض.

القصة الثانية: مقارعة
بِالنِّسبَة للعَجُوز المُصَاب بسرَطان الدِّمَاغ يَنْتظرُ المَوْت، كانَتْ اِبْتِسامَة المُمْرضَة الشَّابَّة، حِينَ تُطِلُّ عليه صَباحاً بوجْهِها الدَّائِرِىّ الصَّغِير وعيْنيْها الخَضْراوَيْن، جُرْعَة يَوْميَّة كافِيَة لمقارعة المَوْت المُتَربّصُ به. وذَات يَوْم، اِنْشَغلتْ المُمَرّضَة بِمُكالمَةٍ طَوِيلةٍ مع حَبيبها، فَطلبَتْ من زميلٍ لَهَا تَفقد العَجُوز. لَمْ تدرك أَهَمّيّة اِبْتِسامَتها بالنِّسْبَة لِإِصْرارهِ على الحيَاةِ، فَمَات كَئيباً ذَلِكَ الصَّبَاح.

القصة الثالثة: طَائِرٌ
لَمْ يَكنْ يتَوَقَّع أَنَّ المَاء بَارِد إِلى هَذا الحَدّ حِينَ نزلَ إِلى النَّهْر، كانَتْ سَاقَه المَبْتُورَة تَتْرُك خَيْطاً من الدم خَلْفه، وعندما نَظَر إِلى الضِّفَّة الأُخْرى، لَمْ يلَمح رفَاقه هُنَاك. فى طِين الشاطئ وقَفَ ذَلِكَ الطَّائِرُ على خَشَبَةٍ يهزها المْوَج الخَفيف. كانَ شَكْلهُ غَريباً ويَتَطلَّعُ إِليه بِغمُوض، وعِنْدَما ابْتعَد قليلاً، شَعَر بالوَهْن، ولَاحَ الرِّجال المُلَثَّمون ينزلون الجُرْف باتِّجاهه، كمَا لوْ كانُوا ذئاباً تتشمّم رائِحَة الدَّم، ثمَّ أخذوا يُطْلِقون الرَّصَاص الَّذى بدا مِثْل جَمرَات حَارِقة تَنطفِئ فى الماء. كانَتْ الضِّفَّة الأُخْرى لا تزَال بَعيدةً، وسَاقهُ النَّازِفَة أَفْرَغَتْ الدَّمَ تَمَاماً من جسَدِه، وحين غَطس متجنباً الرَّصَاص، لمحَ ذَلِك الطَّائِر الغَريب يَسبحُ تَحْتَ المَاء. لَمْ يَكُنْ طَائِراً! أو هوَ طَائِرٌ يَشْبَهُ السَّمَكَةَ ربَّمَا، يَقُودهُ إِلى الظُّلَّام فى المِيَاه البَارِدَة.
نقلا عن الوطن