وكأن فرنسا بكاملها تتهاوى فوق حالها، تنهار فوق رمادها، تمشي في طريق جلجلتها والزمن اسبوع الالام. يعلو صراخ العيون والحناجر والقلوب والنيران لا تبالي، متوحشة مجنونة توغل في التهام تاريخ ولا أعرق، هندسة ولا أجمل، حكاية ارض وشعب وتاريخ في كنيسة.

احترقت كاتدرائية نوتردام دو باري، تهاوى التاريخ فوق حاله كمن يعلن الغضب من نفسه وعليها، السخط على الحاضر والناس، اللعنة على زمن تنكّر لنضاله وما عاد للتاريخ فيه من مكان ولا احترام. اشتعلت النيران في كاتدرائية الزمن العريق المتحدر من مئات السنين ونضالاتها، لتصبح كاتدرائية أحدب فيكتور هوغو، حكاية أسف وزعل وسخط وخوف. خفنا على الكاتدرائية التي يتجاوز عمرها الـ 856 عاما من العراقة، خفنا على اكليل الشوك الذي غُرز في رأس المسيح، وكان من ضمن محفوظاتها، وان كنا في سرنا علمنا ان لا النار ستقوى على تاج المسيح ولا المسيح يقبل ان يمحو آثاره عنا، اذ اُنقذ الاكليل قبل ان تصل اليه النيران، وما كانت لتصل، ولو وصلت ما كانت لتستطيع التهامه، كلنا ايمان بذلك.

تحت عيوننا مباشرة، ولحظة بلحظة التهمت النيران صلواتنا، وكلما ارتفع فينا صوت رجاء لتخمد، تستفزنا أكثر وتستشيط غضبا وتكمل جوعها الهائل للهب، المزيد من اللهب، وكلما انهار برج من كاتدرائية التاريخ كأنما شيء ما فينا ينهار معها. نحن في لبنان وهي هناك في قلب باريس، لكنها بدت وكأنها هنا في قلب البيت عندنا، ووقفنا عاجزين تماما نراقب شاشات العالم تنقل بذهول الحدث المؤسف المحزن، جلسنا نراقب الانهيار المدوّي وقلوبنا كتل اللهب وليس اقل.
 
جلسنا الى الشاشات نشعل التحليلات علنا نعرف سببا علميا يخبرنا لماذا اشتعلت النيران فعلا، غير اسباب اعمال الصيانة كما قيل، ولماذا التأخير في اخماد النيران، انتظرنا الطائرات لتتدخل ولم نشاهدها، انتظرنا هيك خبرا يأتي كالوميض ليطمئننا بان الكاتدرائية ستبنى من جديد وكما كانت بعراقتها، لكن كيف نبني مجدا استحال بلحظات رمادا؟! نبني الحيطان ونعيد الديكور لكن اتعود الايادي التي حفرت، والتاريخ الذي حوّل المكان ساحات صهيل الزمن الغابر؟

قلنا الكثير بيننا وحالنا وأول ما استنتجناه، ان باريس تدفع ثمن تخليها عن شيء ما كان عريقا فيها، وجهها ثقافتها الاصيلة نضالها التاريخي لأجل ايمانها، وبعضا ليس بقليل من حضارتها، قلنا لحالنا ان باريس خلعت عنها ثوبها الاصيل فكان العقاب من الرب “ما عدتِ يا مدينة الحضارات تستحقين امجادك وسآخذ منك قطعة من قلب علكِ تستيقظين”!

هل هذا فعلا ما حصل في ليلة باريس السوداء، حين انهارت قبة العصور في كاتدرائية نوتردام دو باري؟!

ليلة حزينة، لم تشتعل كاتدرائية السيدة في باريس وحسب، انما تهاوت حضارة من عمر العصور، تهاوى الكثير من فرنسا، تهاوى الكثير فينا، ابحثي عن قلبك التائه فرنسا، فلن يعيد بناء الكاتدرائية الا نبض العصور ذاك…