منير فخري عبدالنور
تُعدّ الشرعية الديمقراطية حجر الزاوية فى أى نظام سياسى معاصر، إذ تقوم فى جوهرها على مبدأ بسيط وعميق فى آن واحد: أن تكون السلطة السياسية تعبيرًا صادقًا عن إرادة الناخبين. ومن هنا تنبع الأهمية البالغة للنظم الانتخابية، لأنها الأداة التى تُترجم بها الأصوات إلى مقاعد، والإرادة الشعبية إلى سلطة تشريعية وحاكمة.

وفى هذا السياق، يثور الجدل حول نظام القائمة الانتخابية المطلقة، وهو نظام تقوم فكرته على أن القائمة التى تفوز بالأغلبية- وأحيانًا بالأغلبية النسبية- تحصد كامل مقاعد الدائرة، بينما تُهدر أصوات القوائم الأخرى، مهما بلغ حجمها. وهو نظام يبدو فى ظاهره حاسمًا وبسيطًا، لكنه فى جوهره يطرح تساؤلات عميقة حول مدى انسجامه مع متطلبات الشرعية الديمقراطية.

يرتكز المدافعون عن نظام القائمة المطلقة على حجة رئيسية، مفادها أن الحسم والقدرة على الحكم لا يقلان أهمية عن التمثيل، وأن البرلمانات المتجانسة أكثر قدرة على اتخاذ القرار وتوفير الاستقرار السياسى. غير أن هذا الطرح يفترض، ضمنيًا، أن الأغلبية فى المقاعد تعكس بالضرورة الأغلبية فى المجتمع، وهو افتراض كثيرًا ما يثبت عدم دقته عمليًا.

فحين تحصل قائمة على ٥١٪ من الأصوات، ثم تُمنح ١٠٠٪ من المقاعد، تتحول القاعدة الانتخابية من أداة لتمثيل الإرادة الشعبية إلى آلية لإعادة صياغتها قسرًا. وهنا تصبح الشرعية شرعية إجرائية شكلية، تستند إلى صحة الإجراءات لا إلى عدالة النتائج.

تكمن الإشكالية الأعمق فى أن نظام القائمة المطلقة لا يكتفى بتغليب رأى الأغلبية، بل يؤدى عمليًا إلى إلغاء الوجود السياسى للأقلية داخل المؤسسة التشريعية. وهو ما يتعارض مع الفهم الحديث للديمقراطية بوصفها نظامًا لإدارة التعدد والاختلاف، لا لإقصائهما.

فالديمقراطية ليست مجرد حكم الأغلبية، بل هى أيضًا حماية حق الأقلية فى التمثيل والمشاركة والمساءلة. وعندما يُحرم قطاع واسع من المجتمع من أى تمثيل برلمانى، تتآكل الثقة فى العملية السياسية، وتتراجع المشاركة، ويصبح البرلمان كيانًا منفصلًا عن المجتمع بدل أن يكون مرآته.

وفى هذا السياق، لا يمكن تجاهل أن بعض الأنظمة السياسية تلجأ إلى نظام القائمة المطلقة لا بدافع البحث عن أفضل تمثيل، بل بوصفه أداة للسيطرة السياسية الكاملة. فالانتخابات هنا لا تُصمَّم لقياس موازين القوى الحقيقية، بل لإنتاج نتائج مضمونة سلفًا، تُقصى فيها المعارضة عبر قواعد اللعبة ذاتها.

وغالبًا ما يُقدَّم هذا الخيار تحت شعار الحفاظ على الاستقرار أو منع الفوضى البرلمانية، وكأن التعددية السياسية خطر، والاختلاف تهديد للأمن. لكن هذا النوع من الاستقرار هو استقرار زائف وهشّ، يقوم على الإقصاء لا على الرضا، وعلى الصمت لا على التوافق.

وهكذا تُنتج القائمة المطلقة أغلبية مطلقة مصطنعة تمنح السلطة مظهرًا من الشرعية، بينما تُفرغ الديمقراطية من مضمونها التمثيلى، وتحوّل البرلمان إلى غرفة تصديق لا ساحة نقاش.

فى المقابل، يقوم نظام التمثيل النسبى على فلسفة مغايرة، أساسها أن كل صوت يجب أن يُحتسب، وأن الخريطة البرلمانية ينبغى أن تعكس - قدر الإمكان - الخريطة السياسية الحقيقية للمجتمع.

صحيح أن التمثيل النسبى قد يفرز برلمانات أكثر تعددية وأقل انسجامًا، لكنه فى المقابل يعزز الشعور بالعدالة الانتخابية، ويرفع منسوب الثقة والمشاركة، ويمنح النظام السياسى شرعية أعمق وأصدق، حتى وإن تطلب ذلك ثقافة تفاوض وتوافق أعلى.

وإذا كان الجدل بين القائمة المطلقة والتمثيل النسبى يعكس توترًا دائمًا بين مطلب الاستقرار وضرورة التمثيل العادل، فإن بعض النظم الديمقراطية سعت إلى تجاوز هذا التعارض عبر حلول وسط، لا سيما فى الانتخابات المحلية.

ومن أبرز هذه الحلول منح الحزب أو القائمة التى تتصدر النتائج نسبة إضافية من المقاعد تفوق نسبتها الفعلية من الأصوات، دون أن تصل إلى حد الاستحواذ الكامل على التمثيل. وبهذا الأسلوب، تُضمن أغلبية قادرة على الإدارة واتخاذ القرار، وفى الوقت نفسه يُحتفَظ بتمثيل حقيقى لأحزاب الأقلية داخل المجالس المنتخبة.

ويتميّز هذا النموذج بأنه يعترف صراحة بأن الاستقرار لا ينبغى أن يُبنى على الإقصاء، وأن التعددية ليست عبئًا يجب التخلص منه، بل واقعًا ينبغى تنظيمه.

إن جوهر الإشكال لا يكمن فى الاختيار التقنى بين نظامين انتخابيين، بل فى التصور الفلسفى للديمقراطية نفسها: هل هى مجرد أداة لإنتاج سلطة مستقرة مهما كان الثمن؟ أم إطار جامع يعترف بالتعدد ويحوّل التنوع من عبء إلى مصدر شرعية؟

ولعل الطريق الأجدى لا يكون فى الحسم بين نظام وآخر، بل فى تصميم قواعد انتخابية ذكية تعكس المجتمع كما هو، وتُنتج فى الوقت ذاته سلطة قادرة على الحكم، لأن الديمقراطية الحقيقية لا تقوم على إقصاء الأصوات، بل على تنظيمها وتحويلها إلى قوة بناء.
نقلا عن المصرى اليوم