يوسف إدوارد
لا يحتاج الاتهام إلى دليل، بل إلى إعلام لا يملك صبر المعرفة. ومع كل أزمة إقليمية، يظهر سؤال ساذج في ثوب اتهام جاهز: هل للمسيحيين في مصر علاقة بالصهيونية؟ سؤال لا يُطرح للفهم، بل للإدانة، ولا يُقال بحثًا عن الحقيقة، بل استسهال للخلط.
اللافت أن هذا الخلط لا يأتي من فراغ، بل من كسل معرفي مزمن، يرفض الاعتراف بأن العالم أعقد من مانشيت، وأن الكنائس – مثل المجتمعات – ليست كيانًا واحدًا، ولا عقلًا واحدًا، ولا موقفًا واحدًا. وهنا يظهر الدور الحاسم للإعلام: بناء وعي عام لا يقوم على الاستسهال، بل على البحث، والتمييز، والفهم العميق للتاريخ والجغرافيا والدين والسياسة.
الصهيونية المسيحية، كما هى معروفة في دوائر البحث الجاد، ليست “مسيحية” بقدر ما هى مشروع سياسي أمريكي بغطاء لاهوتي انتقائي. تيار نشأ في سياق غربي محدد، يخدم حسابات القوة، ويتعامل مع النصوص بوصفها أدوات، لا تراثًا روحيًا. ومع ذلك، يُصر بعض إعلامنا على التعامل معها باعتبارها الترجمة الحرفية للمسيحية كلها، ثم يمد هذا التبسيط إلى مسيحيي الشرق، وكأن العالم يمكن اختزاله في أبيض وأسود.
في المقابل، هناك حقيقة أكثر إزعاجًا لهذا الخطاب: أن الكنائس المصرية لا تكتفي بإعلان رفضها للصهيونية المسيحية، بل تمارس الرفض عمليًا. فالحوار الذي تخوضه الكنائس المصرية مع الكنائس البروتستانتية في الولايات المتحدة ليس حوار مجاملات، بل اشتباك فكري وسياسي هادئ، يوضح ويختلف ويضغط، ويفتح مسارات عقلانية لخدمة قضايا عادلة، في مقدمتها القضية الفلسطينية. الإعلام المسؤول هنا يمكنه أن يبرز هذه الصورة، ليكسر دائرة الصور النمطية، ويزود المجتمع بأدوات تفكير سليمة.
من يعرف طبيعة هذه الحوارات، يدرك أن الكنائس الأمريكية ليست نسخة واحدة، وأن بينها اختلافات حادة فى قضايا داخلية، وتباينات أعمق في قراءة الصراع العربي–الإسرائيلي. والأهم أن تيارًا واسعًا داخل هذه الكنائس يقف على الضفة المناقضة تمامًا للصهيونية المسيحية، وينخرط في شراكات إنسانية مباشرة مع الفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، في الضفة والقطاع وداخل إسرائيل نفسها.
لكن هذه الصورة لا تصلح للإعلام المتعجّل، لأنها تحتاج جهدًا، تمييزًا، ووعيًا بمسؤولية نقل المعلومات بدقة. الإعلام القادر على ذلك لا يبني جمهورًا متلقّيًا فقط، بل مجتمعًا واعيًا معرفيًا، يفرّق بين الحقيقة والتزييف، ويفهم التعقيدات قبل إصدار الحكم.
بدلًا من ذلك، كثير ما يُختزل المشهد في فزاعة مريحة: “مسيحيون ينتمون إلى الصهيونية”. فزاعة تُعفي صاحبها من البحث، وتمنحه شعورًا زائفًا باليقين الأخلاقي. وهكذا تتحول القضية الفلسطينية – وهى قضية عدالة وحقوق وإنسان – إلى أداة لتأجيج شكوك داخلية، وفتح جبهات وهمية، وتغذية ضغائن لا تخدم إلا دعاة الانقسام.
السخرية هنا ليست في الاتهام ذاته، بل في الاطمئنان الفكري لمن يردده. اطمئنان من لم يقرأ بيانًا، ولم يتابع حوارًا، ولم يفرّق بين كنيسة وكنيسة، لكنه واثق تمامًا من حكمه... واثق إلى درجة لا تحتاج إلى معرفة.
في النهاية، ليست الأزمة في وجود الصهيونية المسيحية – فهى معروفة ومُحلَّلة ومُدانة – بل في تصدير الجهل بوصفه موقفًا، وفي تحويل الإعلام من أداة فهم ومسؤولية إلى منصة تبسيط فجّ. الإعلام الواعي يمكنه أن يقلب هذه المعادلة، ويجعل من كل أزمة فرصة لتعزيز وعي المجتمع ومعرفته.
أما “الصهينة على ما تفرّج”، فهى ببساطة:
أن تتهم وأنت لا تعرف،
وتعمّم وأنت لم تفرّق،
وتصرخ... لأن التفكير مرهق.
نقلا عن المصرى اليوم





