بقلم الأب يسطس الأورشليمى
ولدت هذه القديسة في عام 427 بإحدى بلاد أوديا بمنطقة الرها من عائلة نبيلة، وقد أعتادت منذ صغرها أن تصلي صباحاً ومساءً، وتذهب للكنيسة بصحبة والديها وبهذا الحب الإلهي المنسكب في قلب هذه الطفلة المباركة، نمت وترعرعت كغصن طاهر نقي فكانت بذلك موضع إعجاب عظيم جداً من جهة والديها وكل أقربائها.
أشتاقت نفس الطوباوية سوزان ( سوسنة ) لأن تذهب لأورشليم لتسجد أمام قبر مخلص العالم، وتتبارك من الأماكن المقدسة، كما ورد على فكرها أنها ستأخذ أيام لزيارة الأديرة هناك وإن أستراحت لأحد هذه الأديرة ستقيم هناك، كانت هذه العذراء الصغيرة لم تصل بعد إلى عامها العشرين عندما علما والديها بما عزمت عليه، ومن ثم أعترضا وطلبا منها أن تتأنى وتنتظر لحين يكتمل نضوجها الفكري، ولكن أمام تصميمها ضاعت كل جهود الوالدين في إنتزاع هذه الفكرة من قلبها وأخذت تصلي لكي يعطيها الرب الإله طريق الخلاص والمحبة الإلهية فقالت: "علمني يارب طريقك فهمني فألاحظ شريعتك وأحفظها بكل قلبي …، دربني في سبيل وصاياك لأني بها سررت"، وبعد أيام ليست بكثيرة تركت المنزل دون علم والديها.
أن الأب السماوى يعطي لنا اشتياقات النفس البشرية طالما هذه الإشتياقات وفق إرادته ولنمو الإنسان الروحي، حقاً كما قال الكتاب اللـه يعطينا أكثر مما نسأل ولهذا أعد الرب وسيلة لسفر العذراء الملتهبة بمحبته النارية، كما أعد أيضا من يسافرون معها حيث وجدت قافلة قاصدة أورشليم للزيارة فذهبت معهم، وحينما وصلوا إلى هناك تقدمت العذراء الطوباوية إلى الكنيسة وتناولت من الأسرار المقدسة وأبتعدت عن القافلة، وأختفت أيام قلائل في إحدى الكنائس ثم خرجت لتبحث عن دير للراهبات يكون سبباً في خلاصها، وبالفعل أعلمها أحد الأتقياء عن دير بالقرب منها فذهبت إليه.
دخلت سوزان الدير وقابلت الأم الرئيسة التي أندهشت لما فعلته في كيفية حضورها دون علم والديها …، وكيف وهي فتاة وفي ريعان الشباب تتجسم هذه المخاطر وحدها وفي إتضاع وإنسحاق طلبت العذراء المباركة من الأم الرئيسة أن تلتحق بالدير فسمحت لها، وأرسلت رسالة إلى أسرتها تفيد بأنها في مكان آمن وذلك لكي تطمئن قلب والديها.
سلكت سوسنة في الحياة الديرية بكل تقوى وورع وتدربت على الصلوات الطويلة داخل قلايتها مع المواظبة على جميع أعمال خدمة الدير الموكلة لها، فزهدت في كل مالها من ملبس ومأكل، كما مارست في حياتها فضيلة الصمت فلا تتكلم إلا عند الضرورة، ذلك لأن قلبها كان في حالة صلاة وطلبة دائمة وسارت على هذا المنهج في هذا الدير وحمامة السلامة وعناية اللـه تحفظ الدير وراهباته دون أي أمر يعكر صفو هدوئهن.
وبعد مرور عشرة أعوام من حياة الراهبة سوسنة بداخل الدير في هدوء واطمئنان آثار الشيطان كعادته حرب إنقسام بداخل الكنيسة المقدسة، وذلك كعادته من وقت لآخر ( مثل نشر الوثنية والأريوسية )، إذ حدث أنشقاق في عام 451م فى مجمع خلقيدونية، وتدخلت القوى السياسية متمثلة في الأباطرة المسيحيين لينتصروا لفريق ضد آخر ولو بقوة السلاح والتعذيب ليفرضوا رأيهم، ووسط هذه المشاحنات التي لم يستفيد منها إلا الشيطان ولم يسلم دير العذارى المقيمة به القديسة سوسنة من بطش الخلقيدونيين إذ لم يوافقن على قرارات وقوانين هذا المجمع.
وعلي ذلك دخل الجنود الخلقيدونيين الدير وأخذوا في تهديد الراهبات بكل نوع ووسيلة إذ لم يخضعن للقوانين الجديدة، ومع شدة التهديدات المملوءة بالقوة خضعت كثير من الراهبات خوفاً من بطش هؤلاء الأشرار، أما سوسنة فقد أعطاها الرب حكمة عظيمة فتركت الدير وفي صحبتها خمسة راهبات، ولأنها كانت لها إشتياقات مقدسة لحياة التوحد في الصحراء لذا صارحت إخوتها الراهبات بذلك وطلبت منهن في محبة أن يبحثن لهن عن دير آخر إلا أن رفضن ذلك معلنات أنهن مستعدات للموت معها، ولما وجدت صدق عزيمتهن عرفتهن بأنها ستذهب للديار المصرية حيث الإيمان القويم وشجاعة الأباء لمجابهة تلك الحملة الشريرة، وقد اعتنى الرب بهذه القديسة في رحلتها حتى وصلت إلى الإسكندرية.
وفي الإسكندرية ذهبت الراهبات إلى مريوط، حيث كاتدرائية الشهيد مارمينا العجائبي، وأخذن بركة الأماكن المقدسة ثم عرفن أنه يوجد في خارج هذه المنطقة قرية تدعى منديس، وبجوارها بعض الأماكن (المهجورة) تصلح للإقامة، وعلى الفور ذهبن إلى هناك فوجدن برجاً أثرياً كان يستعمل كبرج مراقبة ضد البربر، فدخلت فيه الراهبات وعملن على تنظيفه ليكون صالحاً لسكناهم، قد فكرن في عمل يصلح لهن يقتاتن من ثمنه.
وأعتادت سوسنة في هذا المكان أن تخرج وتتأمل في الطبيعة، وبينما هي تسير في ذات يوم وجدت كهفاً تحت الأرض يصلح للإقامة، فدخلت فيه وسجدت بكل إشتياق قلبي طالبة من الرب الإله أن يجعل لها هذا الكهف مكاناً لسكناها، وبداخل هذا الكهف أستمرت عشرة أيام كانت تقتات خلالها من نباتات الأرض التي كانت بجوارها.
ومنذ اليوم الأول لغياب الأم سوسنة عن بقية أخواتها الراهبات خرجن للبحث عنها في كل يوم دون جدوى، وأخيراً تحنن الرب عليهن وأرسل أحد الأحباء الذي كان يأخذ عمل أياديهن ويبيعه فقال لهن لعلها في المنارة الموجودة بالقرب من هنا، وبالفعل ذهبن إلى هناك وفرحوا حينما وجدوها، حيث كانت قديستنا في ذلك الوقت ساجدة ودموع الصلاة الروحانية تكسو وجهها الممتلئ نعمة وعزاء، لم ترد القديسة عليهن واستمرت ساجدة وإذ لم يجدن فائدة أمسكن بثيابها فقامت ونظرت إليهن وأخبرتهن بأن الشياطين كانت تصرخ عليها في كل يوم، ولذلك شكت أن تكون أصوات أخواتها مثل تلك الأصوات، ولكنها عندما رشمت ذاتها بعلامة الصليب تحققت أنهن أخواتها الراهبات، وبعد ذلك الحديث أقتنعن بكلامها على أن يأتين إليها كل بضعة أيام بالخبز والماء.
وقد شاءت عناية الأب السماوى أن يترهبن أخ هذه القديسة في إحدى الأديرة باسم صموئيل، وقد سمع بفضائل الأم سوسنة علم أنها أخته، وعلى أثر ما سمعه ذهب إليها مع خمسة من الأباء الرهبان، وتعرفا على بعضهما وعرض أفكاره عليها بأنه يريد أن يقيم على مقربة منها هرباً من المشاحنات الخاصة بمجمع خلقيدونية، فإعتذرت القديسة لأخيها وقالت له أنها ستترك المكان إلى البرية الداخلية إن عزم على تنفيذ هذه الفكرة، وهنا تراجع أخيها وأقام سوراً حول البرج الذي تقيم فيه الراهبات، وأقام لنفسه ديراً بالقرب منهن.
استمرت قديستنا في صحراء مريوط خمسة عشر عاماً ثم سافرت إلى برية شهيت وتقابلت مع آباء هذه البرية وقد قال لها القديس يوحنا أسقف أفسس: " لم أرى وجه القديسة حيث كانت دائماً تنظر إلى أسفل"، ولما سألتها عن سبب ذلك قالت: " أن اللـه الذي وضع عليّ بنعمته … يعلم ضعف إخوتنا الرجال وأنا لي خمسة وعشرين عاماً لم أرى فيها وجه رجل ولم يرانى أحداً من الرجال وذلك خوفاً من محاربة الشيطان لهم ولي أنا الضعيفة أيضا ".
كما سجل القديس يوحنا أسقف أفسس ما قالته هذه القديسة عن زوال هذه الدنيا وكل مجدها، فقالت أن الإنسان لا يتعظ بالموت وكيف يفسد والديدان تأكل لحمه بعد موته وبالرغم من كل ذلك لا نتعظ ولا نتوب، بل نسير بغرور وكبرياء في هذا العالم الخادع، وتكلمت أيضاً على الساعة التي فيها سوف يقف كل إنسان أمام عرش اللـه للمحاكمة العادلة، وقالت أيضا أنه لمن المخجل حقاً أننا نسمع عن أتون النار وأعماق اللهيب والظلمة وباقي العذابات ولكننا لا نأخذ هذا بجدية ونتوب ونطلب اللـه ورحمته.
وقد أنعم الأب السماوى على هذه القديسة بمواهب عديدة كشفاء المرضى، فكان يأتي المرضى إليها فترفع يدها بالصلاة فينال كل من به داء نعمة الشفاء، وبجوار هذه الموهبة أعطاها الرب أيضا موهبة الشفافية الروحية، فكانت تعلم خفايا النفوس وبخاصة النفوس المثقلة بالأتعاب والحروب، وقد جاء إليها في ذات يوم راهباً فأعلمته بحاله ومدى ما يتعرض له من حروب فذهل الأب لأنه لم يعلم أحد بأمره، وبالرغم من ذلك لم تتشامخ قديستنا بل بروح المحبة والمسكنة الروحية قادته إلى طريق النصرة مصلية من أجله مذكرة إياه بالوعود الإلهية التي أعطاها الرب لآبائه.
حقا أنه يوم عظيم، ذلك اليوم الذي يستريح فيه الإنسان المؤمن من أتعاب هذا العالم، فكما يفرح ربان السفينة وركابها بالوصول إلى الميناء هكذا كل نفس جاهدت فكم بالحري هذه القديسة، لقد جاهدت جهاد الرجال الأقوياء كأعظم ما يكون الجهاد في حياة الدير وفي حياة التوحد وفي الثبات على العقيدة المستقيمة، لقد كانت تسير وأمامها طريق الجهاد مرسوم وسفر الحياة مفتوح ومسالك الأباء مطروقة والصوت يستحثها أنه قد أقترب الزمان، وأخيراً أستراحت مكللة بأكاليل المجد الأبدى





