سمير مرقص
(١) «مكلمة زائفة وفخيمة»
المتابع للحوارات فى صورها المختلفة فى العقود الثلاثة الأخيرة، خاصة مع التقدم المطرد الذى شاهدته وسائل الاتصال، هو ظهور نخبة جديدة تعتمد فى حواراتها- لا- على تكوين ثقافى ومعرفى يؤهلها للحديث، وإنما على خطابات مستمدة من ثقافة سماعية يستخدم فيها مصطلحات ومفردات تلتقط بشكل متناثر من تلك الثقافة السماعية دون أن يكون لها تأصيل معرفى أو منهج فكرى أو توظيف منطقى. وللوهلة الأولى، تبدو تلك الحوارات فى صورة فخيمة ومنمقة، وفى بعض الأحيان مبهرة، ولكنها فى حقيقة الأمر، ومع قدر من التركيز، فارغة وسطحية وباهتة. وبالأخير، فإن أقل ما توصف به هو أنها «مكلمة» تقوم على اللغو والرطانة. وأقصد باللغو: القول القصير أو الممتد الذى ينطق به صاحبه دون أن يكون له مرجعية محكمة، أو قصد دلالى واضح أو أثر فى الواقع. ومن ثم يفرط المتحدث فى حديثه. إذ فى غياب المرجعية والقصد والأثر يصبح الكلام «ببلاش» لا معنى له. أما الرطانة؛ فأعنى بها استخدام مفردات ومصطلحات ذات مضمون فخيم من الوزن الثقيل. وفى كثير من الأوقات يتم استخدام الأصل الأجنبى لتلك المصطلحات بالرغم من توفر الترجمة المعتمدة لها. إلا أنه ومع الإفراط فى استخدامها فى الحديث الواحد نجدها فاقدة/ زائفة المعنى والتسكين الصحيح فى المواضع الملائمة لمعناها. ويتبين- سريعا- أنه بالرغم مما تحمله من معنى عميق، إلا أن الرطانة توظفها لا بسبب عمقها، وإنما ادعاء للعمق. وبالأخير، تصبح محصلة اللغو والرطانة كلامًا فخيمًا وزائفًا.
(٢) «سمات حوارات اللغو والرطانة»
هكذا تتحول اللغة من وسيلة للتواصل المعرفى الأمين والبناء والمثمر إلى أداة لملء الوقت ولسد الفراغ وحشو المساحات الحوارية بكلام منزوع السياق ومزين بمفردات معتبرة. ما يمنح المتكلم شرعية شكلية متخيلة لا شرعية مستحقة. وبالطبع، لا مجال فى هكذا حوارات، تقوم على اللغو والرطانة؛ الحصول على فكرة ذات معنى أو إعمال التفكير النقدى. إذ تحول المكلمات الزائفة والفخيمة النظر عن الموضوع مثار الحوار فى الأصل، كما تدفع نحو الالتهاء بالكلام المنمق وغير الحقيقى. بهذا المعنى، وحسب أحد المفكين المعاصرين، تصير متلازمة اللغو ــ الرطانة فى الخطاب العام العربى المعاصر، «ليست مجرد فائض لغوى برىء، بل تغدو جزءا بنيويا من أسلوب إنتاج الكلام لدى قطاعات واسعة من النخب الجديدة خاصة التكنوقراط» (وتجدر الإشارة هنا إلى أننا نميز بين الخبراء الموظفين والخبراء المثقفين؛ يمكن مراجعة نص الخبير المثقف والخبير الموظف فى كتابنا أحلام فترة العزلة ــ دار العين ٢٠٢٤). فاللغو، بوصفه كلاما لا يفضى إلى معنى محدد أو أثر معرفى، الذى يتواصل اليوم مع الرطانة التى توظف مصطلحات تبدو تقنية أو فكرية ــ وأحيانا كثيرة بلغة أجنبية ــ لكنها تُستخدم بلا ضبط مفهومى؛ كلاهما سوف يمارسان، فى حقيقة الأمر، وظيفة إيهامية أكثر منها تفسيرية تخطف المتابع بعيدا عن الحقائق والوقائع المادية من جانب، والأفكار الأصيلة. وتتراوح أسباب التوظيف من التلميع الشخصى إلى «الغلوشة» على الجهل والفشل، مرورا بالحجب، بوعى أو بغير وعى، للحقائق، والانبهار بالموضات المصطلحية المستعارة والمستوردة فى الأغلب، والانغلاق،..، إلخ. حتى الدوائر الأكاديمية باتت تكتفى بما لديها من معرفة، وكأن المعرفة ساكنة لا تتجدد ــ فقط ــ بشكل دورى، وإنما بصورة متضاعفة أيضا.
(٣) «من أجل المعرفة الحقة والتفكير المتجدد والإبداع الأصيل»
إن حديثنا عن اللغو والرطانة ليس حديثا عن اللغة وأزمتها، بل هو حديث عن نمط فى التفكير والتعبير من جهة أولى، وعن غياب / تغييب الحوار الحقيقى الذى تشتبك فيه الأفكار بحثا عن الحقائق من جهة ثانية، وتراجع الحوار الجاد الساعى نحو التجدد الفكرى من جهة ثالثة. وكلها مظاهر تعكس الإشكالية المركبة للحوارات الراهنة التى يغيب عنها العمق وتفتقد الجدية وتسيطر عليها اللامنهجية. حوارات ذات طبيعة اجترارية وتكرارية وانطباعية تتسم بالتحيز والحدية والاستقطاب. ونشير هنا إلى مقولة لأحد المفكرين المعنيين باللغة فى العصر الرقمى مفادها: إن لغة الرطانة واللغو تسهم فى تعطيل التفكير النقدى، إذ تخلق انطباعا زائفا بالمعرفة، وتُحوّل النقاشات العامة إلى مساحات استعراض لغوى بدلا من أن تكون ساحات مساءلة عقلانية. فحين يُستبدل السؤال بالمصطلح، والحجة بالتكرار، يكون الخطاب مغلقا على ذاته، عصيًا على الفهم والمحاسبة.. وبعد، إن نقد الرطانة واللغو ليس تمرينا لغويا محضا، بل هو فعل مقاومة يصب لصالح المعرفة الحقة، والفكر المتجدد، والإبداع الأصيل. ولن ينجح هذا الفعل المُقاوم ما لم ندرك ــ فقط ــ خطورة اللغو والرطانة، وإنما كشف «اللغويون والرطانون». إن حديثنا اليوم هو دعوة إلى استعادة اللغة بوصفها أداة للفهم والتفسير، لا وسيلة للتعمية والهيمنة؛ وإلى مساءلة المفاهيم بدلا من استهلاكها، وربط القول بالمسؤولية، والمعرفة بالواقع المعيش. نواصل...
نقلا عن المصرى اليوم





