بقلم الأب يسطس الأورشليمى
ولد القديس جيروم في مدينة ستيرودني من مقاطعة دالماسيا في يوغسلافيا، وقد كان طالبا سعيدا ومن ثم كراهب وكاهن في سنوات بلوغه وأخيراً صار صديق البابا الشيخ القديس داماسيوس وسكرتيره، ثم قرر أن يرحل الي بيت لحم تاركا روما حيث كثر خصومه فيها بعد أن كان يكتب ويعظ عن الحياة التقشفية والنسكية ويدعو إلى حياة مسيحية أكثر تقشفاً وتعبداً، مما كان يثير حفيظة الأخرين في صفوف رجال الدين والشعب بل وفي صفوف الرهبان أنفسهم الذين كان البعض منهم رهبانا بالاسم أكثر منهم بالفعل وبفضل عظاته عن جمال الحياة النسكية وتفسيره العميق للكتاب المقدس جذب إليه مجموعة لا بأس بها من العذارى وعدد كبير من الشبان الذين زهدوا الحياة الدنيا وإعتنقوا الحياة النسكية والرهبانية، مما أثار غضب قلة من الشعب فأشاعوا عنه الأقاويل والأفتراءات الشنيعة، وعلى هذا الأساس رأى من الأفضل أن يرحل من مدينة روما مدينة الأقاويل كي يستقر في بيت لحم ويمارس الحياة النسكية بجوار مغارة المهد التي أصبحت محط أفئدة أصحاب العقيدة المسيحية أينما وجدوا في سائر أنحاء المعمورة.
لما بلغ ايرونيموس ( جيروم ) السنة الخامسة والعشرين من عمره قرر أن يحج إلى الأماكن المقدسة غير أن مرضا خطيراً آلم به أثناء السفر فأرغمه على الإقامة الطويلة في أنطاكية سنوات عديدة، وفي سنة 386م على وجه التحديد إستطاع أن يحقق أمنيته بالسفر إلى الاراضى المقدسة، حيث بقى في بيت لحم إلى آخر أيام حياته سنة 420م، وتسائل الكثير من المؤرخين لماذا جذبت بيت لحم هذا الراهب ايرنيموس بسحرها لماذا هذا الانجذاب لبيت لحم بالذات وليس على سبيل المثال للقدس أو الناصرة أو صحراء يهودا مقر يوحنا المعمدان، وكانت أمنيته أن يؤسس له ديراً أو مقراً نسكياً بقرب مغارة الميلاد في بيت لحم ليكتب فيها الإنجيل الخامس يعمق معرفته بالعبرية والأرامية واليونانية وذلك لفهم الكتاب المقدس بشكل أحسن ويفسره بشكل افضل.
عندما ركب البحر من أوستيا ( مرفأ روما ) صحبه إلى الأراضي المقدسة بغية البقاء معه أخوه باولينوس والكاهن فنشينوس وغيرهما من النساك، وما أن وصل أنطاكية ( عبر جزيرة قبرص ) حتى أنضمت إليه النبيلة باولا وابنتها استوكيوم، وهما من أشرف العائلات الرومانية إذ هي من عائلة كراتشي وسيبيوس المكرسات نفوسهن لخدمة الرب وعبادته، ولذلك أستغلت ثروتها الكبيرة في بناء ديرين في بيت لحم، الأول لجيروم ورهبانه، والثانى لها وللراهبات اللواتي قدمن من روما وإيطاليا للعيش في بيت لحم في حالة تنسك مدى الحياة، بالإضافة إلى بناء هذين الديرين أصرت باولا على أن تبني على نفقتها بيتا لنزول الحجاج القادمين لزيارة الأماكن المقدسة وكان الديرين متقاربان، ولكن مستقلين، كان الرهبان والراهبات يشتركون معا مع أهالي بيت لحم والقرى المجاورة فقط في حضور قداس الأحد والإحتفالات الدينية التى كانت تقام في كنيسة المهد الفخمة التى أشادتها الملكة هيلانة وابنها الإمبراطور قسطنطين فوق مغارة المهد وكرست باسم القديسة مريم وسماها بعض المؤرخون كنيسة الميلاد وآخرون سموها باسم كنيسة المهد، وكانت باولا قد قالت عند وصولها إلى بيت لحم: " هذا مكان أخرتي مادام السيد المخلص قد أختار بنفسه هذا المكان لولادته، ولذلك فأنا أيضا أرغب في البقاء في هذه البقعة وأرغب أن أدفن فيها "، وتعتبر النبيلة باولا من طليعة النساك القادمين للعيش في بيت لحم، وقد توفيت باولا في سنة404م the desert a city by derw .S tchity .p. 460) (، وقد قال عنها القديس جيروم: " لقد حفرت ذكراك على بلاطة قبرك حتى عندما تنتهي أيامي يستطيع الزائر لهذا المكانان يعلم بأنك من قبلي قد شرفت - أي أكرمتك ونلت شرفا - وأنك هنا في بيت لحم قد دفنت ".
وقد توفيت ابنتها استوكيوم ودفنت هي الأخرى في بيت لحم بجوار المغارة التى دفنت فيها أمها في مغارة جيروم ولذلك يجد الزائر لهذا المكان ثلاث مغاور تشير إلى القبور الثلاثة إلا أن رفاتها نقلت بعد ذلك إلى روما.
أثناء سفره هذا التقي باصدقاء كثيرين ففي أنطاكية تقابل مع باولينو أسقف هذه المدينة الذي رسمه كاهنا، كذلك ألتقى مع ايفاغروس معلمه في الحياة الرهبانية، كما توجه إلى مصر لزيارة الرهبان الكبار هناك، ووصل به المطاف إلى صحراء نيتريا (وادي النطرون) حيث أرتبط بعرى الصداقة مع ديديموس الضرير من الإسكندرية.
فلما وصل إلى بيت لحم وجد أنسب مكان يحقق له أمنيته الغالية وأحلامه في الدراسة والتعمق بمعرفة روح الإنجيل هي تلك المغارة الواقعة تحت كنيسة المهد وكانت هذه المغارة عبارة عن مجموعة مغاور متنفرعة إلى جهة الغرب وأخرى إلى جهة الشرق فأتخذ المغارة الأخيرة من الجهة الغربية صومعة وقرأ له وباشر تنسكه، فكان عالماً ومترجماً ومفسراً للكتاب المقدس، وقد حمل معه بعض الكتب من روما وهي الكتب التى دأب على جمعها بصبر كبير إذ نسخها أو طلب نسحها عن المخطوطات الأصلية أو التي نقلها هو بذاته عن اليونانية، بالإضافة إلى ذلك فقد كان بإمكانه الرجوع إلى بعض الكتب المتوفرة في القدس سواء كانت مسيحية أو عبرية، وفي بعض الأحيان كان يسافر الي مدينة قيسارية على شاطئ البحر البيض المتوسط عاصمة الاراضى المقدسة وعلى سبيل المثال إطلع على كتاب ازابيلا الشهير الذي ألفه أوريجانوس الكبير من معلمي الكنيسة الأوائل، ويحوي هذا الكتاب على الكتاب المقدس في ستة لغات مكتوبة على ستة أعمدة متوازية فيما عدا ذلك كان يغني مكتبته باستمرار بالكتب التي كان يترجمها هو ذاته عن الكتب اليونانية من كتب لاهوتية أو رهبانية أو تلك التي كان ينسخها رهبانه من المخطوطات المتنوعة.
درس القديس جيروم اللغة العبرية على يد الحاخام اليهودى باحنينا الذي كان قد إعتنق الديانه المسيحية والذي كان يدرسها بصوره خفية في صومعته حتى أتقنها فأقام في صومعته تحت الحنية الشمالية من كنيسة المهد مدة أربعة وثلاثون سنة بإستمرار وعاش في حالة تقشف شديد وصلوات وعبادة، وكان جيروم نشيطا جداً في البحث في علم اللاهوت ودحض إدعاءات معارضي العقيدة المسيحية بالبراهين القوية والحجج الدامغة التى لم يستطيع خصومه دحضها وعمل على تلبية طلب صديقه البابا القديس دأماسيوس بأن يكتب نسخة للأناجيل باللغة اللاتينية.
عكف القديس جيروم على دراسة نسخ الإنجيل الموجودة باللغتين العبرانية واليونانية، فكان ناتج عمله الفولجاتا وهي كلمة يونانية تعني العمومية أو الشعبية، ومنذ ذلك الحين حتى يومنا هذا بقيت هذه الترجمة هي النسخة الرسمية للأناجيل المعترف بها في الكنيسة الكاثوليكية، كذلك كتب القديس جيروم الكثير من الشروحات والتفسيرات، لما جاء ذكره في الأناجيل فكانت كتاباته هذه تدرس وتفحص بكل دقة من قبل باولا وابنتها استوكيوم، وهكذا تكون فريق من المتعبدين الدارسين لنسخ الأناجيل لازموا بيت لحم مدى حياتهم ولعل أهم أقواله هي: " أن جهل الكتب المقدسة هو جهل بالمسيح " .
كان جيروم يستعين بإستشارة العلماء اليهود في الأراضي المقدسة، وكان يقول يجب أن تعودوا في هذه الأمور إلى اليهود، وكان ايرونيموس ( جيروم ) يقابل كنيسة اللـه بكنيسة إبليس، وفيما يختص بتفسير نصوص الكتاب المقدس الصادر عن الكنسية، كان يصفه بأنه نابع من تخيلات حمقى ومع ذلك لم يكن يخشى من زيارة معلمين يهود مشهورين ( كتاب تاريخ الكنيسة ) كما قام بترجمة 78عظة.
ويذكر لجيروم ترجمته لكتاب يوسابيوس القيصري, وأيضا ترجمته للأعمال الجدلية ذات القيمة الجدلية الفائقة، كما نجد بين رسائل جيروم وثائق هامة خاصة بالقديس ثيؤفيلس السكندرى ومضابط مجمع مكانى عقد فى أورشليم ونصوص شرقية أخرى.
كما ترجم مجموعة من الوثائق القبطية الباخومية إلى اللاتينية كذلك كتب سير الأباء: الأنبا بولا أول السواح, إيلاريون الكبير, القديس ملخوس، كما قام بترجمة الهكسابلا ( السداسيات أهم أعمال أوريجانوس).
أعُجب القديس جيروم بالعلامة أوريجانوس والذي أعتبره هبة اللـه للكنيسة فعكف على ترجمة الكثير من كتاباته ومقالاته إلى اللاتينية وكان يلقيها على الرهبان والراهبات حتى جاء القديس ابيفانيوس أسقف سلاميس إلى الاراضى المقدسة وألقى عظته على الجماهير، وهاجم أوريجانوس بعنف فتحول القديس ايرونيموس (جيروم) من العشق الشديد لأوريجانوس إلى العداوة المرة فيحسبه كابيفانيوس أنه علة كل هرطقة بل حسبه شيطاناً، وبسبب هذا التحول خسر القديس جيروم صديق صباه روفينوس ودخل معه في صراعات مرة وقاسية وقد حاول القديس أغسطينوس التدخل بأسلوب رقيق للغاية، ولكن القديس جيروم دخل معه في صراع شديد وبلهجة قاسية.
نياحة القديس جيروم :
في أواخر أيامه هاجم البيلاجيون ديره وأحرقوا جزء كبيرا منه وقتلوا ونهبوا وفي عام 420، تنيح جيروم عن عمر يناهز الثانية والسبعين بعد أن عاش ما يقرب من 72 سنة قضى منها 34 سنة في بيت لحم في تلك الصومعة التي أختارها لنفسه، ودفن في نفس مغارة القديسة باولا وابنتها تنفيذا لرغبته وهذا القبر يوجد قرب مغارة الميلاد وقد نقلت رفات هذا الإنجيلي إلى كنيسة ثانية ربما إلى القسطنطينية أو روما، وفي القرون الوسطى كان القبر خاليا من الرفات، ولكن عموما ظل لذكرى القديس جيروم ويعيد لها الغرب في 30 من سبتمبر ويصورونه وأمامه أسد رابض، إذ قيل أنه شفى أسداً وقد لازمه في الدير وربما لأنه كان يمثل الأسد في البرية يزأر بشدة من أجل أستقامة الإيمان لا يستريح ولا يهدأ بسبب الهرطقات.
وبصفة عامة تعلق السيدة ا. ل. بوتشر عن جيروم فتقول أنه كان ميالاً للشقاق والخناق فقد سبق له أن غضب وصخب مع صديقه القديم روفينوس الذي كان ساكناً مع ميلانية في جبل الزيتون، كذلك تنافر جيروم مع ثيوفيلس (البابا السكندري) بشأن أسقف مصري كان هذا قد حرمه وطرده فقبله جيروم عنده بإكرام وتبجيل .





