القمص يوحنا نصيف
نعرف أنّ سِفر نشيد الأناشيد -كما شرحه لنا آباء الكنيسة- يحمل الكثير من المَعَاني الرمزيّة البديعة، عن علاقة النفس البشريّة بعريسها الإلهي وملكها المُحِب ربّنا يسوع المسيح..
من أجمل المشاهِد في هذا السفر، ما جاء في (نش5: 2-8)، وهي قصّة تستحقّ أن نقف عندها، ونفحصها آية آية، ونتأمّل في أسرارها..
+ تقول العروس: "أنا نائمة وقلبي مستيقظ.." لعلّها إشارة لحالة فتور روحي، فتبدو عليها ملامح الخمول والبرود، وإن كان قلبها لا يزال نابضًا بالإيمان ومعرفة الله!
+ "صوت حبيبي قارعًا".. المسيح يفتقدنا في فتورنا وابتعادنا.. كما يقول دائمًا: "ها أنا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشّى معه وهو معي" (رؤ20:3).
+ لا توجَد استجابة من العروس المتكاسلة النائمة للطَرَقَات الحانية المتواصلة!
+ "افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي، لأنّ رأسي قد امتلأ من الطَلّ وقُصَصِي من ندى الليل".. حديث عذب مملوء بالحُّب واللطف، لتحريك عواطف القلب.. فالله يقف على باب قلبي، ويلِحّ في الطلب من أجل مصلحتي، ويطيل أناته عليّ ويحتمل برودي..!
+ "قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه؟ قد غسلت رجليّ فكيف أوسِّخُهُما؟".. ردّ سخيف من العروس المتكاسلة، لا يتناسب أبدًا مع تضحيات الحبيب؛ الذي يحتمل برد الليل القارس في انتظار العروس الغالية في عينيه!
ربّما يحدُث أن يَرُدَّ البعضُ مِنّا مثل هذه الردود، التي تُصَوِّر وكأن التجاوب مع الله مُكَلِّف للنفس ومُتعِب للإنسان جدًّا بعكس الحقيقة.. فأحيانًا نُقَدِّم حُجَجًا تافهة لتبرير التراخي والكسل:
كيف أصحو مبكِّرًا لحضور هذا القُدّاس المبكِّر؟
كيف أعطي العشور، من دخلي القليل؟
كيف أصوم، وأنا عندي كلّ هذه الأمراض الكثيرة؟
كيف أتوب وحدي وسط هذا المناخ الخاطئ، الذي لا يُعطِي أيّ قيمة للتوبة؟
كيف أعيش بالصِّدق والوضوح، بينما الناس كلّها تَكذِب وتَحتال؟
كيف أحضر اجتماعات الكنيسة، وأترك الخروج مع أصدقائي؟!
كلّها في الحقيقة ردود سخيفة باردة أمام حُبّ إلهي مشتعل؛ يَحتَمِل ويُضَحِّي، ويتودَّد ويطيل أناته..!
+ "حبيبي مَدّ يده من الكوَّة".. مَدّ اليد -في العهد القديم- إشارة للتجسُّد وظهور الله متأنِّسًا في عالمنا.. لقد مَرّ علينا لكي يعيننا، وينتشلنا من الموت، ويرفعنا إلى ملكوته.
ومَدّ اليد أيضًا إشارة للكشف عن جراحات حُبِّه، كما كشف آثار المسامير وجراح الحربة لتوما الغارق في شكوكه، فنظر ولمس وتحرَّك قلبه، فآمَن بالمسيح ربًّا وإلهًا (يو20)!
+ "أنَّت عليه أحشائي".. هنا تَظهَر لحظات تلامُس القلب مع محبَّة المسيح الحلوة الفائقة؛ وكأنّ سِهامًا ناريّة قد أصابت قلب العروس، فانغَرَسَتْ فيه، وأشعلته بالمحبّة الإلهية.. هذه لحظات فارِقة في حياة الإنسان تُغَيِّر مساره وسلوكه تمامًا.. قد تكون أثناء سماع كلمة روحيّة أو قراءة هادئة في الإنجيل، أو أثناء قدّاس إلهي حارّ أو اجتماع صلاة قوي، أو تأمُّل في الصليب وانكشاف حُب الله المبذول عليه..!
+ "قُمتُ لأفتح لحبيبي ويداي تقطران مُرًّا، وأصابعي مُرٌّ قاطرٌ على مقبض القِفل".. أخيرًا قامت العروس من تراخيها، فقد اصطادتها محبة المسيح، ودخلت في دائرة الجاذبيّة الإلهيّة.. فقامت بسرعة لتفتح في ندم شديد ومرارة على الوقت الذي تركته فيه خارجًا. كما نلاحظ أنّها لم تهتمّ بما تلبسه في قدميها أو بما تزيِّن به نفسها.. لقد نسِيَت نفسها تمامًا في أشواقها إلى الحبيب!
+ "فتحت لحبيبي، لكن حبيبي تحوَّل وعَبَر".. هنا تحدث مفاجأة غير متوقَّعة؛ الحبيب المُنتظِر طوال الليل يختفي من أمام العروس الملهوفة التي وقعت في شِباك حُبِّه!
الآن يظهر بوضوح أنّ الحبيب يَمُرّ على عروسه لا ليمكث معها، بل لكي يسحبها معه، ويرتقي بها بعيدًا عن بيتها القديم وحياتها الأُولى، لتسير وراءه في حياة جديدة.. تَخرج من أنانيّتها وحبّها للراحة، وتنطلق باشتياقات حارة حاملةً الصليب وراءه إلى حياة أفضل..!
+ "نفسي خرجت عندما أدْبَرَ. طلبتُهُ فما وجدته، دعوته فما أجابني..!".. لقد خُطِفَ قلب العروس وراء حبيبها، وهي تريده أن يأتي إليها، ولكن في الحقيقة لقد انتهت هذه المرحلة، ودخلنا في مستوى أكثر نضوجًا؛ وهو السعي وراءه بلا قيود أو معوّقات!
+ "وجدني الحرَس الطائف في المدينة. ضربوني جرحوني. حَفَظَه الأسوار رفعوا إزاري عنِّي. اُحلِّفُكُنّ يا بنات أُورشليم إن وجدتُنّ حبيبي أن تُخبِرنه بأنِّي مجروحةٌ حُبًّا I am wounded with love "!
هذه صورة رائعة للنفس التي تلامَسَت مع محبّة المسيح، وخرجَت وراءه، ونسِيَت كلّ شيءٍ في حُبِّه.. وصارت لا تبالي بإهانات الناس وتعييراتهم واستهزاءاتهم، حتى لو كانوا من خُدَّام الكنيسة (الحَرَس الطائف وحَفَظَة الأسوار)، ولا تهتمّ بتذكيرهم لها بفضائحها السابقة (رفعوا إزاري عنِّي).. لقد صار المسيح العريس الحلو هو كلّ مُشتَهَاها، وهي تطلبه بكلّ قلبها حتى لو اعتَبَرَها الجميع مَخبولةً.. فهي قد أحبّته بكلّ جوارحها ولن ترضَى عنه بديلاً، وستسير في طريقه إلى النهاية؛ وهي تَعلَم أنّ النهاية هي عُرس أبدي مُفرِح ومجده يفوق الوصف!
القمص يوحنا نصيف
نوفمبر 2025م





