(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)

أوّلًا: إصدارُ الرّسالة العامّة الرّابعة والأخيرة للبابا فرنسيس
لقد أصدر مثلّث الطُّوبى البابا فرنسيس (1936-2025)، في السَّنة الثَّانية عشرة من حبريَّته، في الـ24 من أكتوبر/تشرين الأوّل لعام 2024، الرّسالةَ العامّة الرّابعة والأخيرة بعنوان «لقد أحَبَّنا». وجديرٌ بالذّكر أنّ الرّسائل العامّة الثّالثة التي صدرت قبل هذه الرّسالة العامّة الأخيرة كانت كالتّالي:
+ 1) الرّسالةُ العامّة الأولى «نورُ الإيمان» (2013)؛ وكان موضوعها هو قضيّة "الإيمان" كمعنى ونور في عصرنا الحالي، مع التّأكيد على أنّ "الإيمان يثري الوجود الإنساني في كل أبعاده".

+ 2) الرّسالةُ العامّة الثّانية «كُنْ مُسَبَّحًا» (2015)؛ وكانت تدور حول "العناية بالبيت المشترك". وقد شجّع البابا فرنسيس جميعَ الأديان، ومن بينها المسيحيّة والإسلام، إلى الحوار فيما بينها في ما يتعلّق بـ"الإيكولوجيّة المتكاملة الشّاملة" و"الأزمة الإيكولوجيّة"؛ وطالب بالتّجاوب مع المشاكل البيئيّة، والتّعاون مع العلوم والحركات الإيكولوجيّة في البحث عن حلول لها، وكذلك على تربيّة وروحانيّة إيكولوجيتيْن أيضًا. ولذلك أُطلِق عليها وثيقة البابا "الخضراء".

+ 3) الرّسالةُ العامّة الثّالثة «جميعُنا-كلُّنا إخوة» (2020)؛ وقد تناولت مفهوم "الأخوّة المنفتحة" و"الأخوّة العالميّة الشّاملة"، في رباطٍ وطيدٍ بـ«وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة" من أجل السّلام العالمي والعيش المشترك»، الّتي وقّع عليها قداسة البابا فرنسيس وشيخ الأزهَر أحمد الطيب، في العاصمة الإماراتيّة أبوظبي، في فبراير 2019. 

ثانيًا: هَيكليّةُ الرّسالة العامّة الرّابعة والأخيرة للبابا فرنسيس
جاءت الرّسالةُ العامّة الرّابعة والأخيرة للبابا فرنسيس تحت عنوان «لقد أحَبَّنا»؛ وهي عبارة مأخوذة من رسالة القدّيس بولس إلى أهل رومية (8: 37)، وتشير بدورها إلى محبّة السّيّد المسيح لنا نحن أصدقاءه (يوحنّا 15: 15). وتدور هذه الرّسالة العامّة حول "الحبّ الإنسانيّ والحبّ الإلهيّ في قلب يسوع المسيح". وعلاوةً على المقدّمة (بند 1) والخاتمة (بنود 217-220)، تشمل هذه الرّسالةُ العامّة على خمسة أجزاء أو فصول، وهي التّالية:

+ 1) أهمّيّةُ القلب (بنود 2-31)؛
+ 2) أعمالُ وكلماتُ محبّة (بنود 32-47)؛
+ 3) هذا هو القلبُ الذي أحبَّ كثيرًا (بنود 48-91)؛
+ 4) الحبُّ الذي يعطيك لتشرب (بنود 92-163)؛
+ 5) الحبُّ بالحبّ (بنود 164-216).

ثالثًا: بضعةُ عناصر مختارة من الرّسالة العامّة الرّابعة والأخيرة للبابا فرنسيس
في هذه الرّسالة العامّة «لقد أحَبَّنا»، نجد شرحًا لمعنى القلب (أعمق جزء في الكائنات البشريّة، وفي الحيوانات والنّباتات أيضًا)، ورمزيته (شخص يسوع ذاته، ومحبّته لنا)، والمطالبة بالعودة إلى "القلب". وتقودنا هذه الرّسالة العامّة إلى طرح تساؤلات حول أنفسنا وحياتنا: «بدل البحث عن الرّضا السّطحيّ، وتمثيل دور أمام الآخرين، من الأفضل أن نطرح الأسئلة المهمّة: من أنا حقًّا، ما الذي أبحث عنه، أيّ معنى أريد لحياتي، وخياراتي أو أعمالي، لماذا ولأيّ هدف أنا في هذا العالم، كيف سأقيِّم وجودي عندما ينتهي، ما المعنى الذي أريد أن يكون لكلّ ما أختبره، ماذا أريد أن أكون أمام الآخرين، ومَن أنا أمام الله؟ هذه الأسئلة تقودني إلى قلبي» (بند ٨).

وبالعودة إلى القلب نكتشف أنّه هو المكان الذي يلخِّص ويكَوِّن ذاوتنا: «وفي خلاصة الكلام، يمكن القول: أنا قلبي، لأنّه هو الذي يميّزني، ويصوغني في هويّتي الرّوحيّة، ويجعلني في تواصل مع الآخرين. يبيِّن نظام الخوارزميّات العاملة في العالم الرّقمي أنّ أفكارنا وقرارات إرادتنا نمطيّة تسير بموجب نمط محدَّد، أكثر ممـَّا كنّا نعتقد. يمكن التّنبّؤ بها بسهولة والتّلاعب بها. ليس كذلك القلب» (بند 14). «إن كان "القلب" يقودنا إلى المركز الحميم في شخصنا، فهو الذي يسمح لنا أيضًا بأن نعرف أنفسنا في كمال ذاتنا، وليس فقط في بعض الجوانب المنفصلة» (بند 15).

وعلى غرار أُمّنا العذراء مريم في الإنجيل، «القلب قادر أيضًا على توحيد وتنسيق التّاريخ الشّخصيّ للإنسان، والذي يبدو مجزّأً إلى ألف قطعة وقطعة، ولكن حيث يمكن لكلّ شيء أن يكون له معنى» (بند 19). ومن جِهةٍ أُخرى، إنّ الواقع الحالي (بحروبه وصراعاته ونزاعاته)، يظهر لنا أنّنا نعيش في مجتمعٍ عالميّ "يفقد قلبه"، وفي "عالم بلا قلب" (بند 22). 

وعلى الصّعيد الشّخصيّ، «عندما يواجه المرء سرَّ ذاته، ربما يكون السّؤال الأكثر حسمًا الذي يمكن للمرء أن يطرحه على نفسه هو: هل لدَيّ قلب؟» (بند 23). وأمّا على المستوى الجماعيّ والاجتِماعيّ، ومن أجل إصلاح العالم وتغييره إلى عَالَمٍ أفضل، «انطلاقًا من القلب فقط، تقدر جماعاتنا أن توحِّد الأذهان والإرادات المختلفة وتهدئتها، وسيُرشدنا الرّوح القدس مثل شبكة من الإخوة، لأنّ التّهدئة هي أيضًا مهمّة القلب. قلب المسيح هو نشوة، إنّه طريق للخروج، إنّه عطيّة، إنّه لقاء. فيه نصبح قادرين على التّواصل بطريقة سليمة وموفّقة، وبناء ملكوت المحبّة والعدل في هذا العالم. قلبُنا المتّحد بقلب المسيح قادر على هذه المعجزة الاجتماعيّة» (بند 28).

كما ينبغي لنا الحذر أشدّ الحذر من فَهْمِ لفظة "قلب" يسوع، على أنّها تتعلّق بمجرّد عضوٍ بيولوجيّ من جسده البشريّ فحسب؛ إذ إنّها تعبيرٌ عن شخص يسوع المسيح بأكمله: «إكرام قلب المسيح ليس عبادةً لجزء منفصل من شخصه. ما نتأمَّل فيه ونسجد له هو يسوع المسيح بأكمله، هو ابن الله الذي صار إنسانًا، والذي نمثِّله في صورة نُظهر فيها صورة القلب. في هذه الحالة، القلب الجسديّ هو صورة أو علامة مميِّزة لما هو الجوهر، والأكثر حميميّة، في الابن المتجسِّد وهو محبّته الإلهيّة والإنسانيّة، و"الدّليل الطّبيعي، أو الرّمز لمحبّته العظيمة"، أكثر من أيّ جزء آخر في جسده» (بند 48).

بإيجازٍ، وعلى نحوٍ عمليّ، في عَالَمنا المعاصر الذي يبدو أنّه قد فَقَدَ قلبَه، وبات عَالَمًا "بلا قلبٍ" (بند 22)، ليت الرّسالة العامّة الرّابعة والأخيرة للبابا فرنسيس «لقد أحَبَّنا»، تسهم في تغييرنا، وتغيير عالمنا، انطلاقًا من تغيير قلوبنا. وفي عَالَمٍ "يحاول أن يبني نفسه بدون الله" (بند 80)، وحيال عَلمنته "التي تطمح إلى عالم خالٍ من الله" (بند 87)، «يحتاج إنسان عام 2000 إلى قلب المسيح ليعرف الله وليعرف نفسه، إنّه يحتاج إليه لبناء حضارة المحبّة» (بند 80)، كما أوضح البابا يوحنّا بولس الثّاني.

أجل، إنّ قلب يسوع الأقدس «هو المبدأ الموحِّد للواقع، لأنّ "المسيح هو قلب العالم، والفصح الذي هو موته وقيامته هو مركز التّاريخ، وهو تاريخ الخلاص"» (بند 31). فيسوع المسيح بحضوره السِّريّ والواقعيّ هو "قلب العالم" (بند 81)، كما أكّد البابا بنديكتُس السّادس عشر. وهو وحده بمحبّته –الإلهيّة والبشريّة–، المجانيّة والنّقيّة والرّحيمة والعظيمة والفائقة واللامحدودة والنّهائيّة والأبديّة، «قادر على إعطاء قلب لهذه الأرض وأن يخلق من جديد الحبّ حيثما نعتقد أنّ القدرة على الحبّ قد ماتت إلى الأبد» (بند 218)؛ و«حبّه فقط يجعل البشريّة الجديدة ممكنة» (بند 219). ومِن ثَمَّ، فعلى المسيحيّين اليوم أن يمنحوا "قلب المسيح إمكانيّة جديدة لنشر لهيب حنانه المتَّقد في هذا العالم" (بند 200). 

وهذه هي كلمات البابا فرنسيس، التي اِختتم بها رسالته العامّة والأخيرة: «أصلّي إلى الرّب يسوع لكي تجري من قلبه الأقدس أنهارٌ من المياه الحيّة لنا جميعًا لشفاء الجراح التي نسبِّبُها لأنفسنا، ولتقوِيَةِ قدرتنا على الحبّ والخدمة، ولتدفعنا إلى أن نتعلَّم السَّير معًا نحو عالم عادل ومتضامن وأخوّي. وهذا إلى أن نحتفل معًا بسعادة بوليمة الملكوت السَّماوي. هناك المسيح القائم من بين الأموات، الذي سيوفِّق بين كلّ اختلافاتنا بالنّور الذي يفيض باستمرار من قلبه المفتوح. ليكن دائمًا مباركًا» (بند 220).