بقلم: أندرو اشعياء
في صمت القلالي، حيث الكلمات تذوب كما الشمع أمام وهج الصلاة، تسلّلت إليّ شكاية خفيّة من روحي. كانت لا تتكلّم، بل تتنهّد. سألتها: "ما بالكِ؟"، فأجابتني بغير صوت، بل بهمٍّ ثقيل: "دخل علينا زمانٌ آخر... لا يشبه الذي نذرنا فيه قلوبنا."
 
منذ أجيال، لم يكن في الدير غير الجرس، يدعونا إلى الصلاة، والريح إذا عصفت، كانت تبشرنا بأن الليل قد اقترب. كنا نعيش بحسب نبض السماء، لا بحسب إشعارات تضيء الشاشات. الآن، دخلت علينا وسائل تُدعى "ميديا"، وتحت هذا الاسم البسيط، تسلّلت إلينا أزمنة غريبة، محمولة على أجنحة الضوء، لكنها تخفي في قلبها ظلالًا كثيفة.
 
إنها ليست حربًا ظاهرة.. لا تُدق فيها الطبول، ولا تُرفع فيها السيوف. بل هي حرب ناعمة، تندسّ في قلب السكينة كما تدخل نقطة حبر في كأس ماء صافٍ، وتظلّ تُعكر، حتى يضيع النقاء. دخلت الهواتف إلى الأديرة، بكلمة تبدو غير مؤذية: "فقط للضرورة". لكن "الضرورة" صارت عادة، والعادة صارت قانونًا، والقانون صار بابًا مشرعًا للعالم، حتى بات الداخل إلى الدير لا يخلع نعليه فقط، بل يحمل في جيبه صخب المدن.
 
والطبع، إن الميديا ليست شراً في ذاتها، كما أن السكين ليست شريرة، لكن الكارثة تكمن في يدٍ غير مُدرَّبة، تُمسك بها في موضع لا يليق. الوسائل صامتة، لكن النفس إن كانت متكاسلة، تجعل من الصمت مرآة للضجيج. نحن لم نُدعَ لرفض العالم، بل لعدم الانسحاب إلى سطحه. والفرق عميق.
أين نحن من وصية الصمت؟
مِن "اغلق بابك وصلِّ لأبيك الذي في الخفاء"؟
 
كيف نصلي في الخفاء، وشاشاتنا مفتوحة على أعين الناس؟
كيف ننمو في السكون، ونحن نستورد أخبار الأرض كل لحظة، ونعرف كل ما قاله «فلان» وعلّق عليه «علّان»، ونتابع بالصوت والصورة أحداثًا لا نملك فيها لا صلاة ولا رأياً؟
 
إن وسائل التواصل لا تقرع باب القلب، بل تقتحمه، وتسرقنا من اللحظة،من الانتباه، من التوبة، من حرارة الصلاة. تهرّبنا من الألم المقدس، من مجاهدة الفكر، من صليب الوحدة. ومن فرّ من الصليب، فرّ من القيامة.
 
وقد اضحى أخطر ما في هذه الحرب، أنها تجعل القديسين صامتين، وتُقدّم "مؤثّرين" مكانهم. أن نستبدل صوت أبينا الروحي بفيديو قصير فيه كلمات حلوة لكنها بلا نعمة. أن نأخذ تعزية من منشور، بدلاً من دمعة في صلاة نصف الليل. أن نأكل من فتات شاشات لا من مائدة الإنجيل.
 
وهكذا، سمة الميديا في يدي الراهب، إن لم تكن أداة للبنيان، تصير بابًا للهذيان. فلنتأنّ في كل نظرة، ونفحص كل متابعة، ونسأل أنفسنا: "هل ما أقرأه الآن، يزيدني حبًا للمسيح؟ هل ما أراه يثير فيّ روح الصلاة، أم يطفئها؟" إننا مسؤولون لا عن ما نُدخله إلى قلالينا فقط، بل عن ما نُدخله إلى أفكارنا وقلوبنا. فكم من راهب بلا هاتف صار قديسًا، وكم من آخر حمل هاتفًا فتبخرت دموعه. لا تحكم الوسيلة، بل تميّز غايتها. وفي كل شيء، اطلبْ خلاص نفسك أولًا، ثم اعمل بحسب الروح، لا بحسب العادة.
 
إن ليست الرهبنة جمودًا، بل ثبات. وليست رفضًا للتطوّر، بل فحصًا له على ضوء الروح. فمن يظن أن الراهب عدوٌّ لكل جديد، لم يختبر بعد روح التمييز التي بها عاش الآباء، فالرهبنة في جوهرها ليست "شكلًا" بل "حياة". وإن كان الزمن يتبدّل وتُستحدَث الوسائل، فإن ما يُطلب من الراهب هو أن يزن كل جديد بميزان القلب: هل يخدم خلاصه؟ هل يثبّته في دعوته؟ هل يعينه على طهارة الذهن وانسحاق النفس؟ فإن كان الجواب نعم، فليُستَخدم كعبد لا كسيّد. أما إن تسرّب إلى الحياة النسكية ليهزّ عمود السكون، فالأفضل أن يُقصى، مهما بدا نافعًا في ظاهره.
 
لقد استخدم آباؤنا المطابع حين خَدَمت الكلمة، وفتحوا أبواب الأرشيفات ليحفظوا التاريخ، وسمحوا بالكهرباء لتُنير كنائس الدير لا لتُطفئ نور القلب. فالتطوّر، حين يُقَبَل بروح الإفراز، يصير أداة مقدسة، كعصا موسى في البرية، لا تُعبد، بل تُستَخدم لعمل المعجزة. وإنّ الراهب الحقيقي، لا يخشى الأدوات الحديثة، لكنه يخشى أن تُصبح هي هدفه، أو أن تستبدل صمت قلايته برنينها. فإن خدمت الميديا دعوته، وعملت في الخفاء كما يفعل الزيت في المصباح، فمباركة هي. أما إن صارت صوته للعالم، وعين العالم عليه، فقد انكسر الحجاب الذي بين الدير والمدينة.
 
ولعل الميديا صارت كالسيف الذي في بستان جثسيماني، مَن يستخدمه دون إفراز، يقطع أذن عبد، بدل أن يسمع صوت الله. لذلك، لا أدعو إلى الهروب، بل إلى التمييز. لا إلى النفي، بل إلى النسك الرقمي. إننا نحتاج إلى ضبط النفس أكثر من ضبط إعدادات الهاتف، إلى توبة فكرية تجعلنا نستخدم الوسائل دون أن تستعبدنا. علّنا نستعيد ذاك النقاء الأول… حين كان الصوت الوحيد في الدير، هو صوت الله.
 
أخيرًا، إنّ ما يخدم الرهبنة حقًا، ليس فقط أن تتابع كل تطوّر، بل أن تُطهِّره بالنُسك، وتُباركه بالصلاة، وتخضعه بالصمت، حتى لا تصير الرهبنة نسخة من الحياة العامة، بل تبقى كما أرادها المسيح: نارًا في القلب، ونورًا في العالم، وخميرةً للكنيسة كلّها.