محرر الأقباط متحدون
وجّه البابا لاوُن رسالة إلى المؤتمر الدولي للفلسفة بعنوان "مساهمات في الثقافات. الفلسفة والمسيحية وأمريكا اللاتينية"، الذي بدأ في ٨ تشرين الأول أكتوبر الماضي في الجامعة الكاثوليكية في أسونسيون في الباراغواي. كتب الحبر الأعظم: "في زمن يُعتبر فيه الأشخاص قابلين للإقصاء، وحيث يبدو أن تقدّم التكنولوجيا يحجب المسائل الأعمق، يبقى للفلسفة الكثير لتسأل عنه ولتقدّمه، في الحوار بين الإيمان والعقل، وبين الكنيسة والعالم".

بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي للفلسفة الذي يُعقد في أسونسيون في الباراغواي تحت عنوان "مساهمات في الثقافات. الفلسفة والمسيحية وأمريكا اللاتينية"، وجه قداسة البابا رسالة إلى منظّمي هذا المؤتمر الدولي ومشاركيه، كتب فيها يسعى المؤتمر ليكون فسحة "للقاء، والتشخيص، والحوار، والإسقاط". إنّ السعي إلى اللقاء هو هدف نبيل، يقف في مواجهة تجربة الذين رأوا في التأمل العقلي — لكونه نشأ في محيط وثني — تهديدًا قد "يُلوّث" نقاء الإيمان المسيحي. فقد حذّر البابا بيوس الثاني عشر، في الرسالة العامة Humani generis، من موقف الذين، بحجة تمجيد كلمة الله، كانوا ينتقصون من قيمة العقل البشري. ويمكن ملاحظة هذا الارتياب من الفلسفة أيضًا عند بعض المفكرين المعاصرين، مثل اللاهوتي المصلح كارل بارت. وإزاء ذلك، يذكّر القديس أوغسطينوس قائلاً: "من يعتقد أنه يجب تجنّب الفلسفة تجنّبًا مطلقًا، فهو في الواقع يدّعي أنه لا ينبغي لنا أن نحبّ الحكمة". لذلك، لا ينبغي للمؤمن أن يبتعد عما تقترحه المدارس الفلسفية المختلفة، بل أن يدخل في حوار معها انطلاقًا من الكتاب المقدّس.

وبهذا الشكل، تابع الأب الأقدس يقول تصبح الفلسفة مجالاً مميّزًا للقاء مع الذين لا يشتركون في نعمة الإيمان. وأنا أعلم من الخبرة أنّ عدم الإيمان يرتبط غالبًا بمجموعة من الأحكام المسبقة التاريخية والفلسفية وغيرها. ومن دون أن نحصر الفلسفة في مجرّد أداة دفاعية، يمكن للفيلسوف المؤمن أن يصنع خيرًا عظيمًا من خلال شهادة حياته، وبما يحثّنا عليه الرسول بطرس: قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلَهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِماً لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ". أمّا الهدف الثاني، أي التشخيص، فيسمح لنا بكشف الادّعاء القائل بإمكانية الوصول إلى المعرفة المتعالية من خلال التحليل العقلي البحت، إلى درجة الخلط بين خيرات الحياة "بحسب العقل" وتلك التي لا تُمنح إلا بنعمة الله. ففي العصور القديمة، زعم الراهب بيلاجيوس أنّ الإرادة البشرية تكفي للالتزام بالوصايا بدون الحاجة إلى نعمة الله الضرورية، وهي الفكرة التي ردّ عليها القديس أوغسطينوس بردّ عميق وشامل. وفي العصر الحديث، جعل هيغل، من خلال نظريته حول "الروح المطلقة"، الإيمان خاضعًا لتطوّر العقل الجدلي. ويمكن العثور لدى مفكرين آخرين على الوهم ذاته، أي الاعتقاد بأنّ العقل والإرادة كافيان وحدهما للوصول إلى الحقيقة.

أضاف الحبر الأعظم يقول لا يجب أن ننسى أنّ الفلسفة، لكونها مهمّة صعبة للعقل البشري، يمكنها أن ترتقي إلى قمم تنير وتُكرِّم، لكنها أيضًا قد تهبط إلى هاويات قاتمة من التشاؤم وكراهية الإنسان والنسبية، حيث يغدو العقل، إذا انغلق على نور الإيمان، ظلًّا لنفسه. وليس كلّ ما يحمل اسم "العقلاني" أو "الفلسفي" هو ذا قيمة متساوية في ذاته؛ بل تُقاس خصوبته بمدى توافقه مع حقيقة الوجود وانفتاحه على النعمة التي تنير كل عقل. وبروح من التعاطف الحقيقي تجاه الجميع، علينا أن نُقدِّم إسهامنا لكي يُظهر الفعل الفلسفي النبيل على نحو أعمق وأوضح كرامة الإنسان المخلوق على صورة الله، والتمييز الجليّ بين الخير والشر، والبنية المذهلة للواقع التي تقود إلى الخالق والفادي.

تابع الأب الأقدس يقول أما الخطوة التالية فهي أساسية: الحوار. وقد أثبت هذا الحوار خصوبته العظيمة في حياة كبار المفكرين واللاهوتيين والفلاسفة المسيحيين، الذين أظهروا كيف أنّ العقل البشري هو عطيّة أرادها الخالق، وأنّ البحث العميق لعقولنا يتّجه نحو الحكمة التي تتجلّى في الخليقة وتبلغ ذروتها في اللقاء مع ربّنا يسوع المسيح، الذي يكشف لنا الآب. في هذا المنظور، الذي نجده منذ القرن الثاني في القديس يوستينوس الفيلسوف والشهيد، وتابعه فيما بعد شخصيات لامعة مثل القديس بونافنتورا والقديس توما الأكويني، يتبيّن أنّ الإيمان والعقل لا يتعارضان، بل يتعاضدان ويتكاملان بشكل رائع. كما قال سلفي القديس يوحنا بولس الثاني: "إنّ الرباط العميق بين الحكمة اللاهوتية والمعرفة الفلسفية هو من أغنى وأروع الكنوز في التقليد المسيحي في تعميق الحقيقة الموحاة". وبالتالي فإنَّ نّ المفكر المسيحي مدعوّ لأن يكون تذكيرًا حيًّا بالدعوة الأصيلة للفلسفة، أي البحث الصادق والمثابر عن الحكمة. وفي زمنٍ تُعتبر فيه أشياء كثيرة، بل الأشخاص أنفسهم، قابلين للإقصاء، وحيث يبدو أن تقدّم التكنولوجيا يحجب المسائل الأعمق، يبقى للفلسفة الكثير لتسأل عنه ولتقدّمه، في الحوار بين الإيمان والعقل، وبين الكنيسة والعالم.

وأخيرًا، أضاف الحبر الأعظم يقول تأتي الإسقاطات المستقبلية كواجب في نقطة التقاء الفلسفة والإيمان. فالفلسفة، بلا شك، تسمح لنا — بأسئلتها أكثر من أجوبتها — بأن نُحلِّل جوهر القيم والعيوب في كل شعب. وفي هذا الإطار، لا يمكن للفلاسفة المؤمنين أن يقتصروا على إعلان ما هو خاص بثقافتهم، حتى وإن استخدموا لغة رفيعة؛ فالثقافة لا يمكنها أن تكون غاية في ذاتها. وفي هذا السياق يؤكِّد القديس أوغسطينوس إنّه لا ينبغي أن نحبّ الحقيقة لأننا تعلّمناها من هذا الحكيم أو ذاك الفيلسوف، "بل لأنّها هي الحقيقة، حتى لو لم يعرفها أحد من أولئك الفلاسفة". بل على العكس، يجب أن يساعدنا هؤلاء المفكرون، من دون أن يغفلوا عن غنى الثقافات، على إدراجها ضمن مجمل التقاليد الكبرى للفكر البشري، وهكذا يصبح إسهامهم ثمينًا للغاية. وإذا ما نال الأساقفة والكهنة والمبشّرون الذين دُعوا إلى إعلان البشارة الخلاصية تنشئة بهذه المعرفة، فسوف تُنقل هذه الرسالة بلغة أكثر وضوحًا وقربًا من الجميع.

وختم البابا لاوُن الرابع عشر رسالته بالقول وإذ أوكل إلى الربّ ثمار أعمالكم، أستمطر عليكم حماية الطوباوية مريم العذراء، كُرسيَّ الحكمة، وأمنحكم البركة الرسولية عربونًا لفيض النعم السماوية.