القمص يوحنا نصيف
رحلة السيِّد المسيح على الأرض هي رِحلة خلاصيّة؛ منذ بداية الحَبَل الإلهي في بطن أمّنا العذراء واتّحاد الكلمة الأزلي بعجينة البشريّة، ثم الولادة والختان والمعموديّة واجتياز التجربة، والتعليم والكرازة والمعجزات، والصليب والقيامة والصعود، ثمّ انسكاب الروح القدس على الكنيسة.. هذه كلّها أعمال تخصّ خلاصنا، وننال فاعليّتها بالاتحاد مع المسيح في المعموديّة.
وعلى الرغمّ أنّنا لا نستطيع التركيز على أيّ حدث دون الآخَر، أو فصل أيّ عمل بمفرده عن باقي الأعمال، إلاّ أنّ الحَدث الأبرز في كلّ هذه الأعمال هو حَدَث الصّلْب! فهو الحدث الأكبر الذي سحب قلوب كلّ أتباع يسوع وراءه؛ عندما قام السيِّد المسيح بتقديم نفسه ذبيحةً على الصليب من أجل خلاص العالم.
الحقيقة أنّ حدَث الصلب كان ماثلاً في ذِهن الكنيسة طوال تاريخها ومنذ القرن الأول.. فهي تريد أن يُرَكِّز جميع المؤمنين أنظارهم عليه.. لذلك نجد على سبيل المثال معلمنا بطرس الرسول يقول عن نفسه أنّه: "الشّاهِد لآلام المسيح (شاهِد عيان)" (1بط1:5)، ويتحدّث عن الصليب كثيرًا في تعاليمه.. فمثلاً يقول:
"الذي حمل هو نفسه (المسيح) خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا، فنحيا للبِرّ" (1بط23:2)،
"الذي بجلدته شُفيتم" (1بط24:2)،
"سيروا زمان غُربتكم بخوف، عالمين أنّكم افتُديتُم.. بدم كريم، كما من حملٍ بلا عيب ولا دنس، دم المسيح.." (1بط17:1-19)..
أيضًا حدث الصَّلْب كان محفورًا في أعماق معلِّمنا بولس الرسول فتغنّى به مرّات كثيرة، سجّلها لنا بالروح القدس في رسائله الخالدة..
"الذي أحبّني وأسلَم نفسه لأجلي" (غل20:2)،
"الذي بذل نفسه لأجل خطايانا.." (غل4:1)،
"اسلكوا في المحبّة، كما أحبّنا المسيح أيضًا، وأسلم نفسه لأجلنا قربانًا وذبيحةً لله رائحة طيِّبة" (أف2:5)،
"الذي بذل نفسه فِديةً لأجل الجميع.." (1تي6:2)،
"الذي بذل نفسه لأجلنا، لكي يفتدينا من كلّ إثم، ويُطهِّر لنفسه شعبًا خاصًّا غيورًا في أعمال حسنة" (تي2:14)،
"المسيح افتدانا من لعنة الناموس (اللعنة الواقعة على كلّ من يخالف الشريعة) إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل مَن عُلِّق على خشبة" (غل13:3)،
"حاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربِّنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلِبَ العالم لي وأنا للعالم" (غل14:6)،
"نحن نكرز بالمسيح مصلوبًا.." (1كو23:1)،
"لم أعزم أن أعرف شيئًا.. إلا يسوع المسيح، وإيّاه مصلوبًا" (1كو2:2)..
إنّ حَدَث الصّلب هو بالحقيقة نُقطة التحوُّل الفاصلة في تاريخ البشريّة؛ التي أخذَتْ بالصليب، ما لم تكُن تحلم به من غلبة وحرِّيّة وفرح وسلام.. عندما اقتحم المسيح الموت في عُقر داره، وهزمه، وحرّرنا من سطوته.. ووهب هذه الغلبة والحرّيّة لكلّ مَن يدخل في شركة معه بالإيمان والمعموديّة، ويحمل صليب وصيّته، ويتبعه طول الحياة.
لذلك فليس مبالغةً من كنيستنا القبطيّة الأُرثوذكسيّة الجميلة أنّها وضعَت حادثة الصّلب كتذكار يومي، في منتصف كلّ نهار.. ورَتَّبَت للمؤمنين صلوات خاصّة في هذا التوقيت وهي صلاة الساعة السادسة (12ظهرًا) وصلاة الساعة التاسعة (3 بعد الظهر)، كما رتّبَت أيضًا صومًا ثابتًا في يوم الصلب (الجمعة) من كلّ أسبوع!
وأيضًا، لكي يكون هذا الحدث الهامّ محفورًا في القلوب، خصَّصَتْ الكنيسة أسبوعًا كاملاً لمتابعة تفصيليّة لرحلة السيِّد المسيح الحَمَل الحقيقي إلى الصليب، ابتداءً من دخوله إلى أورشليم، حتّى ارتفاعه على الخشبة، فاتِحًا أحضانه ليضُمّ البشريّة كلّها، ويصالحها مع الآب بالصليب!
هكذا يظلّ الصليب -حتّى بعد القيامة والصعود- ماثلاً أمام عيوننا باستمرار، في الكنائس والبيوت وفي كلّ مكان؛ نرى فيه حبّ الله المنسكب علينا، وقوّة غلبته على فساد العالم، وجاذبيّة حنانه التي لا يُمكِن لنا مقاومتها أبدًا، فتُسبَى قلوبنا لحبِّه وحمْل الصليب معه، وتبعيّته إلى النَّفَس الأخير في الطريق الضيّق المؤدّي للحياة والمجد!
القمص يوحنا نصيف
توت 1742 - سبتمبر 2025م