أكرم ألفي 
"أوافقك فيما عبرت عنه من مظاهر إيجابية لنهاية الأيديولوجيات الصارمة والحرية التي يمنحها هذا الغياب للجمود الفكري ولكن أتساءل.. هل يوجد ما تخسره الأجيال الجديدة من هذا (الحياد) الفكري التام؟ ألا يوجد ما تمنحه الأيدلوجيات من مرجعيات فكرية وإنسانية قد تكون مفيدة في بعض الأحيان؟ سؤال أطرحه بصدق وأتمنى أن تساعدنا في الإجابه عليه"..

هكذا كتب دكتور زياد بهاء الدين تعليقًا على مقالى «ألفا وZ.. نهاية الأيديولوجيات المتشددة».. لم أكن أعرف هل أشكره بشدة على اهتمامه وسعادتى بتعليقه، أم أبعث له بعتاب لأنه جعلنى أدخل فى دوامة جديدة للبحث عن إجابات للأسئلة الصعبة. فالكتابة عن ألفا وZ خارج الإطار النمطى مرهقة للغاية، خاصة أنها موجهة للآباء، بينما من تتحدث عنهم لن يقرأوا ولن يتفاعلوا مع ما نكتب.

قبل 53 عاماً كتب كاتبنا الكبير أحمد بهاء الدين في مقاله "الفن لا مكان له" وحديثه عن ميلر: "إن البحث عن عناصر ترجح كفة النور أكثر صعوبة.. فانا مضطر للاعتماد على نفسي فقط".

تراجع الأيدلوجيات المتشددة وسط أجيال Z وألفا (الذين ولدوا منذ منتصف التسعينيات) تفتح الباب أمام نمو أيديولوجيات أكثر إنسانية تصارع محاولات التيارات المتطرفة التي يقودها أجيال السبعينيات والثمانينيات وفي نفس الوقت تصارع الفجوة الطبقية المتزايدة في عالم إيلون ماسك.

هذه الأجيال تشن هجوماً غير مسبوق في الغرب على السياسات الإسرائيلية.. عندما سألت سامر الصغير (13 عاماً) عن التوجهات الأميركية بين أصدقائه تجاه ما يحدث في غزة؟ كانت إجابته أن الأغلبية حتى بين صغار اليهود الأميركيين مع الفلسطينيين. وجلس يفسر لي ببساطة أن أغلب جيله يرفض القتل والظلم والسلطة وأن أقرانه على مواقع التواصل الاجتماعي في الغرب يتعرضون لهجوم قاس من التيارات الصهيونية والترامبية باعتبارهم يمثلون جيل الانحلال الأخلاقي وعدم الالتزام بالأفكار الأمريكية وحجر عثرة أمام "عودة أمريكا عظيمة". 

وفي أوروبا تشير كافة الاستطلاعات أن الأصغر (أقل من 30 عاماً) هم الأكثر تسامحاً تجاه المهاجرين المسلمين وضد فرض القيم الغربية على القادمين الجدد مقابل ارتفاع نسبة التشدد بين أبناء السبعينيات والثمانينيات (40- 55 عاماً) وتتراجع نسبة التشدد بين الأكبر سناً (أبناء الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي).

هذا الجيل في مصر يحمل نفس القيم، فهو يحلم بعالم أكثر إنسانية ويعارض بسبب نمط حياته والتواصل الاجتماعي الأفكار المتشددة والأيديولوجيات الجامدة، فهو أكثر تسامحاً مع وجود "ضيوفنا" من السوريين والسودانيين بينما كانت الحملات "الإلكترونية" يقودها أبناء السبعينيات والثمانينيات.. يواجه هذا الجيل هجوماً عنيفا من الأباء باعتباره جيلاً غير اجتماعي يقضي معظم وقته على الانترنت وغير مسؤول ولا مبال وفارغ وغير متدين وغير صالح أحياناً!

إن هذا الجيل يقود تحولاً دراماتيكياً في المرجعيات الفكرية، فلم تعد الافكار الكلاسيكية التي اعتاد عليها جيلي من أبناء الستينيات والسبعينيات هي مرجعيته، هذا يدفعنا أحياناً للخوف والفزع.. لقد جربت هذا شخصياً، فعندما قرأ أبني "اصل العائلة والدولة والملكية الخاصة" لإنجلز وصفه بأنه كتاب لطيف!، بينما عندما قرأت نفس الكتاب في عمر 15 عاماً اعتبرته كتاباً مؤسساً. وعندما سألت آسر الأكبر (16 عاماً) ماذا يقرأ فوجئت بأنه يقرأ كتاباً عن محاولات التنميط والسيطرة وكيفية مواجهتها نفسياً. 

إن محاولات البحث عن أقكار كبيرة لهذه الأجيال تتشابه مع رؤية أبناء الحرب العالمية الأولى للجيل الذي تلاه والذي اعتبره جيلاً فاسداً ولا يعرف التضحية للوطن والدين.. وكما رأى من عاشوا مأساة الحرب العالمية الثانية لجيل الستينيات بأنه الجيل الفاسد واللاأخلاقي والمنحل ومجانين "البيتلز"، فيما اعتبر أبناء "البيتلز" بعد التحولات الفكرية في الثمانينيات والتسعينيات أن الجيل الجديد الذي ترعرع في التسعينيات هو جيل التلفزيون الهش ومعدوم الثقافة والمعرفة.. وهكذا.

إن كل حقبة بشرية تؤسس مرجعيتها الفكرية بطريقتها، والأجيال الصغيرة في مصر والعالم في طور تأسيس إطارات فكرية أعتقد أنها أكثر إنسانية وأكثر عالمية وفي نفس الوقت يغلفها رفض اجتماعي حاد للفروقات الطبقية.. حديث يجب أن أستكمله للإجابة عن السؤال الصعب لدكتور زياد بهاء الدين ولكن في النهاية فأنا أؤمن أن "البحث عن عناصر ترجح كفة النور شديدة الصعوبة وأنا مضطر للاعتماد على نفسي فقط"
نقلا عن المصرى اليوم