إسحاق إبراهيم
رسائل سليمان شفيق التي لا تنضب
طبت حيًا وميتًا أيها الأستاذ الغالي، تعمدت في صباك بالوطنية وتكحلت في شباب بلاهوت التحرير. رحلة طويلة وشاقة من العمل والكفاح والعطاء، عنوانها البحث عن أصحاب كل قضية عادلة بعيدًا عن الشعارات الزائفة والبراقة. عشت بين البسطاء والمثقلين بهموم الحياة لتكون صوتهم الذي يصدح بالحق غير عابئا بالمتاعب التي تتعرض لها بسبب ذلك. فكان من الطبيعي أن تحتل قضايا هموم الأقباط ورفعة الوطن والقضية الفلسطينية مساحة كبيرة من مشروع سليمان شفيق التنويري والتعليمي والفكري.
عرفت الأستاذ فور تخرجي في الجامعة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حيث ساعدني على الالتحاق بالعمل أولًا بالجمعية الوطنية لحقوق الإنسان والتنمية البشرية لمؤسسها الراحل أمير سالم، وثانيًا لجريدة “وطني”، حيث كانت بمثابة”بيت التنوير” الذي فتح أبوابه لعشرات الشباب ليصقلهم، ويعدهم ليس فقط للعمل الصحفي لكن ليقتحموا المجال العام وهم متسلحين بالمعرفة والتدريب لخدمة المجتمع.
يصعب الحديث عن رحلة سليمان شفيق في سطور محدودة، لاسيما أنه لم يعيش حياة واحدة، بلون واحد، لكنه عاش حيوات مختلفة، جسدت قدرته على التطور والتعلم ومواكبة تغير العصر، واستخدام المساحات المتاحة لصنع التغيير الإيجابي. فلم يقف عند مرحلة اليساري الثائر، والتي جعلته يحمل السلاح مدافًعا عن القضية الفلسطينية في ثمانينيات القرن العشرين، ولا عند مرحلة المبشر بلاهوت تحرير مصري، يخرج الأقباط والكنيسة إلى الوطن، يتفهم أسباب التقوقع على الذات لكنه في نفس الوقت لا يرى مخرجًا إلا من خلال تبني قضايا الوطن وبداخلها هموم الأقباط. وهناك مرحلة المفكر الرصين الذي يدفع تلاميذه إلى الأمام ليحتلوا الصفوف الأولى، يرشحهم للعمل التنفيذي والسياسي، ويدعمهم ويقدم لهم المشورة بدون أن ينسب له فضلًا ولا معروفًا. يمكن الوقوف خلال هذه المراحل عند عددًا من أدوار سليمان شفيق المهمة.
الصحفي النابغ
بدأت رحلة “سلوم” -كما كان يحب أن يناديه المقربون منه – في بلاط صاحبة الجلالة بجريدة الأهالي أثناء عصرها الذهبى، ليشارك كوكبة من ألمع الصحفيين، من أبرزهم فليب جلاب وحسين عبد الرازق وفريدة وأمينة النقاش وصلاح عيسي، في صنع صحافة عنوانها هموم المواطن. فقد كان الراحل حكاي من الطراز الرفيع، لديه قدرة عجيبة على نسج قصص واقعية تجسد حياة الناس، وما يربطها من علاقات إنسانية.
ثم انتقل للعمل بجريدة وطني تحت قيادة المهندس يوسف سيدهم، لتتقابل رؤاهما عند هدف طموح وعظيم الأثر من أجل تطوير أبواب الجريدة، وإنشاء “برلمان الشباب” ليكون ساحة للحوار ومناقشة مشاكلهم بكل حرية ومع تقديم حلول لها من واقع خبراتهم. كذلك “مركز التكوين الصحفي” ليصبح مدرسة حية وفعالة لتعليم الصحافة وإعداد صحفيين يملكون ناصية المهنة. ومن الأمور الإيجابية أن كثير من المؤسسات السياسية والصحفية والمجتمع المدني نقلت هذه التجربة في إشارة إلى نجاحها وفعاليتها.
الباحث الموضوعي
حظيت قضية الأقليات في المنطقة العربية خصوصًا الأقباط بإهتمام سليمان شفيق، وكان الشغل الشاغل له منذ شبابه وحتى وفاته، حيث بدأ العمل البحثي في مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، وكان من المساهمين في الكتاب المرجع “الملل والنحل والأعراق هموم الأقليات في الوطن العربي” ثم توالت أعماله ومن أبرزها:
الأقباط من لاهوت التحرير إلى ميدان التحرير”، و”الأقباط ٢٠٠٠ عام بين المشاركة والعزلة”، و”الأقباط بين ثورتين”، و” المصريون المسيحيون ودورهم في تأسيس الحركة الشيوعية.” يضاف إلى ذلك الرواية الممتعة “ثلاثة وجوه” ، وهى تمثل جزءًا من تجربته داخل التنظيمات السرية، وجزءًا من صراعه النفسي بين شخصيات الرواية الثلاث: يوسف الذي نشأ وتربى في أسرة مسيحية مكافحة وهو كاتب وفنان، ثم رفعت الماركسي شخصية حزبية تسير على طريق وعر، ومحصورة بين كر وفر خصوصا إذا كان العمل سري وملاحق من قبل أجهزة الدولة، وأخيرًا كلفنيانو الثوري المسلح. أهمية الراوية أنها تخاطب كثيرًا منا، لدينا شخصيات تصارعنا ونصارعها، نختار منها ما يناسبنا، وهو ليس بالضرورة ما نحبه، وما نألفه.
المعلم الراهب
ينقلنا هذا إلى دور سليمان شفيق المعلم الزاهد، الذي لم يبدأ من مرحلة التكوين الصحفي، فقد سبق ذلك بسنوات عديدة، عمل خلالها في منظمات المجتمع المدني، وساعد في تنظيم معسكرات صيفية لطلاب المرحلتين الثانونية والجامعية لتعليمهم وتدريبهم على ثقافة حقوق الإنسان وقيمها وأهمية ممارستها. ثم نقل هذه التجربة إلى خارج القاهرة، خصوصًا محافظات: الإسكندرية والمنيا والأقصر. طوال رحلة الحياة، لم يكن يبخل شفيق بتقديم أي معلومة لصحفي أو باحث أو مواطن جاوره في الجلوس على مقهى أو سائق تاكسي، كان يستمع له جيدًا ويتفهم رأيه ويساعده على قدر سؤاله.
عاش سيلمان شفيق راهبًا زاهدًا وفيًا لما أمن به، لم يطلب مقابلًا ولم ينل منصبًا، ولم يترك ثروة مالية لكن ترك تراثًا من العمل والخدمة.
رحلت يا أستاذ سليمان بالجسد لكن كلماتك باقية.. روحك باقية في القلب.. سيرتك محفورة في ذاكرة الوطن، فإذا كان من يزرع شجرة يجني ثمارها.. فمالك وانت زرعت مئات الأشجار الزاهية، والتي تملى ثمارها كافة جوانب الوطن.
نقلا عن وطنى





