بقلم: نادر شكري
قامة صحفية وفكرية كبيرة
برحيل الأستاذ سليمان شفيق نفقد قامة صحفية وفكرية كبيرة، ورحلة عطاء امتدت لعقود، حملت في طياتها الكلمة الصادقة والموقف النبيل. لم يكن مجرد صحفي، بل كان صاحب رسالة، وضميرًا حيًّا يدافع عن الحق ويقف بجانب البسطاء. ترك وراءه إرثًا من المحبة في قلوب كل من عرفه؛ فكان الأخ والصديق والأستاذ، الذي جمع حوله الناس بالمودة قبل الكلمة، وبالمبادئ قبل المهنة. رحل الجسد، لكن بقي الأثر شاهدًا على حياة مليئة بالعطاء والإخلاص.
رحلة معرفة وصحبة طويلة
من لا يعرف سليمان شفيق، فقد فاته أن يتعرف إلى شخصية متفردة. أما من عرفه، فكأنه عاش معه رحلة مليئة بالمواقف الإنسانية والصحفية. معرفتي بالأستاذ سليمان تمتد لأكثر من خمسة وعشرين عامًا، ازدادت قربًا أثناء عملنا معًا في جريدة وطني، تلك الجريدة التي جمعتنا كعائلة واحدة. كان سليمان شفيق حاضرًا بين الجميع؛ بين الكبار والصغار، بين الخبرة والشباب، يعلّم ويشجع ويفتح الأبواب. وكانت أولى مبادراته إنشاء مركز التكوين الصحفي تحت رعاية المهندس يوسف سيدهم، ليستمر في دعم الشباب عبر برامج ولقاءات عديدة، متنقلًا بين المحافظات، محاضرًا ومناقشًا وملهمًا، حتى بدا وكأنه شعلة لا تنطفئ.
النشأة والتكوين الأكاديمي
وُلد سليمان شفيق في محافظة المنيا في 7 مارس 1953، وصقل تكوينه العلمي في موسكو؛ حيث حصل على ماجستير في الإعلام من جامعة موسكو عام 1987، إلى جانب دراسات عليا حرة في علم الأقليات من معهد الاستشراق، ودبلوم في السينما من أحد معاهدها المتخصصة. هذه الخلفية الأكاديمية المتنوعة انعكست على سعة رؤيته وعمق كتاباته الاجتماعية. بدأ مسيرته الصحفية مدافعًا عن مصر والقضية الفلسطينية، وكان له دور في المقاومة بلبنان باسم "رفعت". ثم تحولت مسيرته إلى الدفاع عن الدولة المدنية وقضايا المواطنة، التي جعلها شغله الشاغل، خاصة في سنواته الأخيرة، حيث وقف بشجاعة في مواجهة التطرف وحملات الكراهية.
معارك المواطنة والدفاع عن الوطن
قادتني علاقتي به إلى مواقف عديدة، خصوصًا مع بداية الألفية وتصاعد أعمال العنف الطائفي ضد الأقباط. كنا نتناقش دائمًا حول خطورة هذه الأفعال على مستقبل بلادنا، وكان يجمعنا هدف واحد: حماية الوطن من التطرف وتحصين المجتمع ضد الكراهية. كنا نلتقي مع المفكرين والمحامين والناشطين، في شقته بالظاهر أو في لقاءات وندوات مختلفة، لنبحث حلولًا وطنية خالصة.
صمود رغم المرض
ورغم المرض الذي لازمه في سنواته الأخيرة، وخضوعه لعمليات قلب متعددة، كان يستقبلنا دائمًا بابتسامته المعتادة وحبّه الكبير. لم يكن المرض عائقًا أمام قلمه أو صوته، فكلما وقعت أحداث تخص المواطنة، وجدته على تواصل، يتابع، يناقش، ويقترح حلولًا، متواصلًا مع نواب ومسؤولين وشخصيات كنسية من أجل البحث عن حل الأزمات. وكان يفرح إذا عادت فتاة مختفية أو أُغلقت صفحة فتنة، محذرًا دائمًا من تيارات الشر التي تحاول اللعب بورقة الدين، ومؤكدًا على دور الدولة في مواجهة هذه المحاولات، فكان حبه لوطنه ثابت، لم يتاجر بحب هذا الوطن، كان له كل التقدير والحب بين أجهزة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني
قضايا كبرى ومواقف خالدة
لا أنسى لقاءاتنا في قضايا كبرى مثل قضية مقتل مجدي مكين، حيث اجتمعنا مع المحامين في مكتب الأستاذ نبيل عزمي بحضور الأساتذة محمد عثمان، هاني رمسيس، عاطف نظمي، عماد فليكس ,امجد مراد وآخرين، نبحث سبل الدفاع عنه. وكذلك في قضية السيدة سعاد ثابت "سيدة الكرم"، وزياراته المتكررة لنيافة الأنبا مكاريوس أسقف المنيا، الذي كان يرتبط به ارتباطًا وثيقًا ويفتخر بصداقته. وأيضًا ارتباطه بالعديد من الصداقات في المنيا، حيث شارك في لقاءات توعية بالمواطنة مع الآباء اليسوعيين، وعلى رأسهم الأب الراحل وليم سيدهم. كان سليمان شفيق بحق شبكة من العلاقات مع كافة الأطياف السياسية والفكرية، حاضرًا بفكره وبشخصيته المحبوبة المؤثرة.
إنسانية لا تنسى
كان اتصاله الأسبوعي عادة لا تنقطع، يبدأها بعبارته التي لا تُنسى: "إزيك يا ابن عمي.. اشتقتلك". كان يطمئن عليّ وعلى أسرتي، ويغمرني بمحبته وتشجيعه. كتب عني مرات عديدة، أبرزها في قضية الطفل شنودة حين كتب مقال بعنوان: "نادر بطل من زماننا"، وهو ما أشعرني بفضل كبير منه لن أنساه.
لم يكن حاضرًا فقط في المهنة، بل في كل المناسبات الإنسانية: عزاء، فرح، زيارة، دعم… لم يتأخر يومًا رغم مرضه وتقدمه في السن. كان حاضرًا في القلوب قبل الأماكن.
تكريم مستحق ورسالة وفاء
وأذكر بكل فخر يوم أن نظمنا يوم الصحافة القبطية تحت رعاية قداسة البابا تواضروس الثاني، وأصررنا أن يُكرَّم اسم سليمان شفيق بيد قداسة البابا، تقديرًا لمسيرته. فهذا الرجل كان يستحق الكثير من التقدير والتكريم، ولكن ما يحزنني أن الكثير مثل سليمان شفيق لا ندرك قيمتهم إلا بعد رحيلهم. لذلك أدعو نقابة الصحفيين لتكريمه تكريمًا يليق بتاريخه، وتنظيم حفل رثاء يجمع محبيه وتلاميذه، فهذا أقل ما يمكن أن نقدمه لرجل ترك بصمة لا تُمحى في ذاكرة الصحافة والوطن.
رحل الأستاذ سليمان شفيق جسدًا، لكن روحه ستظل باقية بيننا بما تركه من حب ومعرفة وعطاء. لقد كان صوتًا للحق، وضميرًا حيًّا، وصديقًا مخلصًا، وأبًا روحيًا لتلاميذه وأحبائه. سيبقى اسمه محفورًا في الذاكرة، وسيرته نورًا يهتدي به كل من عرفه أو تتلمذ على يديه.
وداعًا أيها الأستاذ الكبير… رحلت، لكنك باقٍ في قلوبنا وذاكرتنا، إلى أن يجمعنا اللقاء من جديد.