هاني لبيب
نستطيع أن نقول بكل أريحية إن إسرائيل لم تضرب غزة فقط، ولم تكتف ببيروت ودمشق وبغداد، بل ذهبت هذه المرة مباشرة إلى قلب الدوحة.. إلى عاصمة خليجية آمنة ومحسوبة على معسكر المفاوضات والوساطة والدبلوماسية. عشر طائرات إسرائيلية استهدفت بالقصف مبنى، من المفترض أنه يضم كلًا من: خليل الحية، وخالد مشعل، وموسى أبو مرزوق، وحسام بدران، ونزار عوض الله، ومحمد درويش، وزاهر جبارين.. وهو ما يفسر أن الهدف هو قطع رأس القيادة السياسية لحماس فى الخارج، وتأكيد إرسال رسالة للمنطقة بأسرها (لا أحد بعيد عن الصواريخ الإسرائيلية).

ما قامت به إسرائيل ليس مجرد عملية اغتيال لقيادات حركة حماس. ولكنه إعلان وقح بأن السيادة العربية لا مكانة لها فى حسابات تل أبيب. اليوم الدوحة، وغدًا قد تكون عاصمة أخرى. لم تعد إسرائيل تفرق بين استهداف جغرافيا المقاومة أو جغرافيا الحلفاء. تمارس الآن العربدة الكاملة بلا سقف أو حدود من غزة إلى الخليج، بلا أى رادع حقيقى.

لم تكن الصدمة فيما قامت به إسرائيل فى عملية القصف نفسه فقط، بل فى اعتراف البيت الأبيض بأن واشنطن أبلغت مسبقاً بالهجوم. وما يترتب على ذلك من أن الحماية الأمريكية، التى طالما روجت لها واشنطن، هى مجرد وَهْم. قطر التى تستضيف واحدة من كبرى القواعد العسكرية الأمريكية لم تحصنها تلك القاعدة من صواريخ إسرائيل.. إنها رسالة واضحة: الأمن الأمريكى هو أمن إسرائيل، وما عداه تفاصيل هامشية لا تأثير لها.

قبل أيام قليلة، أعلن رسمياً مكتب بنيامين نتنياهو «رئيس الوزراء الإسرائيلى» أن الإمارات لوّحت بوقف العمل باتفاقيات أبراهام، فى حال قامت إسرائيل بضم الضفة الغربية. تجاهلت إسرائيل التهديد وذهبت لقصف قطر. إسرائيل تعلم جيداً أن التطبيع أكبر من أى خط أحمر، وأن دول الخليج لن تغامر بعلاقاته معها. ولذلك من الطبيعى أن تتجرأ على ضرب عاصمة خليجية.. دون أن تخشى من فقدان شىء.

سياسياً، فإن القصف لم يكن ضد حماس وحدها. لقد استهدف نتنياهو إفشال أى مبادرة لوقف إطلاق النار، وإطالة أمد الحرب كى ينجو داخلياً من أزماته ومحاكمته قضائياً. استهدف قصف.. قيادة المفاوضات من حركة حماس بالدوحة فى ضربة متعمدة لكل جهود الوساطات السابقة. وستكون النتيجة الطبيعية.. إغلاق الباب أمام أى حل سياسى، وإبقاء المنطقة رهينة حرب مفتوحة.

جاء الموقف المصرى مختلفاً وسط الصمت العربى التاريخى. أدانت القاهرة الهجوم الإسرائيلى على الدوحة بحدة، ورفضت أى مساس بالسيادة الوطنية لقطر، وأعلنت تضامنها الكامل معها. الفرق هنا.. أن مصر ليست مجرد بيان للشجب والإدانة. بل هى القوة العسكرية الوحيدة والقادرة فى المنطقة على فرض مواجهة حقيقية مع إسرائيل عند الحاجة. كما تدرك إسرائيل جيداً أن حياد مصر هو إحدى أهم دعائم السلام والتفاوض فى المنطقة. وأن أى تجاوز سيكون بمثابة إعلان حالة الحرب. ولذلك ستظل القاهرة هى الخط الأحمر الحكيم والأخير.

قصف الدوحة ليس فى كل الأحوال اختبار لقطر. ولكنه اختبار لكل الأنظمة العربية، وما إذا كانت السيادة الوطنية لا زالت تعنى لها شيئاً.. بعد أن أصبحت تل أبيب تكتب قواعد المنطقة بشكل منفرد. وأصبحت القاهرة هى التى تغرد خارج السرب من خلال رؤى مستقبلية.. ثبتت صحتها ودقتها.

لا مفر فى أن يتجاوز الرد العربى حدود البيانات الإنشائية.. حتى لا يتكرر قريباً قصف عواصم أخرى فى المنطقة. تستغل إسرائيل الآن قرأتها لدول المنطقة باعتبارها ضعيفة ومنقسمة، وأنه لن يقف أحد فى مواجهتها سوى القاهرة. هذا هو الخطر الحقيقى فى أن يتحول الاستهداف القطرى إلى بروفة، وليس نقطة تحول.

ما حدث فى الدوحة كشف بوضوح لا ريب فيه، أن التطبيع لا يحمى أحدًا حتى لو كان فى نسخته المعدلة «اتفاقات إبراهام» البديل الجديد بعد صفقة القرن. وأن الحماية الأمريكية وهم. وأن إسرائيل مستعدة لتجاوز كل الحدود فى ظل استمرار.. عجز الموقف العربى من تحويل الغضب إلى قوة ردع.

نقطة ومن أول السطر..

فى تقديرى، أن حالة ما بعد التطبيع وإقرار «اتفاقات إبراهام».. يمكن تحديدها فى: وهم السيادة العربية وعجز الحماية الأمريكية وغطرسة القوة الإسرائيلية وثبات الموقف المصرى.

إقليم تحت القصف.. ونتنياهو يكتب قواعد اللعبة ويعيد صياغة مستقبل المنطقة بالدم والنار.

لقد ضرب الطيران الإسرائيلى الدوحة، ولكنه فى الحقيقة ضرب مفهوم السيادة الوطنية. وهو ما يجعل السؤال المهم هو: هل تتكرر الضربة؟، أما السؤال الأهم: أين ستكون الضربة القادمة؟!.
نقلا عن المصرى اليوم