هاني صبري - الخبير القانوني والمحامي بالنقض 
 
تُعدّ القضية الفلسطينية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في الشرق الأوسط، وتتطلب جهودًا حثيثة من أجل تحقيق حل سلمي يرضي جميع الأطراف.
ويبرز دور الوساطة كعنصر حاسم في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. 
 
في هذا السياق، تبرز مصر كدولة محورية قادرة على لعب دور الوسيط الفاعل، بينما تثير قطر تساؤلات حول قدرتها على الاستمرار في هذا الدور.
 
منذ عقود، اضطلعت مصر بدور محوري في إدارة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. فقد دفعت مصر ثمناً غالياً من دماء أبنائها دفاعاً عن فلسطين، وكانت أول من وقّع اتفاق سلام تاريخياً حافظ على استقرار المنطقة لعقود. كما استضافت مصر مراراً جولات الحوار بين الفصائل الفلسطينية، وسعت بجدية لإنهاء الانقسام الداخلي. هذا الدور لا يقوم على المبادرات المؤقتة، بل على رصيد استراتيجي ومكانة جيوسياسية تجعل من مصر “الوسيط الطبيعي” الذي يحظى بثقة الجميع.
 
لقد أثبتت مصر على مدار تاريخها أنها الوسيط الجاد والمسؤول. هي التي حملت على عاتقها عبء التهدئة والحفاظ على استقرار المنطقة. مصر لم تدخل هذا الملف لتكسب نفوذاً مؤقتاً أو تسوّق لصورتها، بل لأنها تعتبر فلسطين جزءاً من أمنها القومي وخط دفاعها الأول .
 
مصر تملك ما لا تملكه أي دولة أخرى : وزن استراتيجي، قدرة على فرض الالتزامات، ثقة المجتمع الدولي، وصلابة في الموقف. وحين تقول مصر كلمة في ملف فلسطين، تُصغي لها العواصم الكبرى، لما لها من ثقل إقليمي ودولي يتيح لها التواصل مع جميع الأطراف وتعرف إسرائيل والفصائل الفلسطينية أنها أمام وسيط لا يساوم على المبادئ، وعندها قدرة عملية على ضمان تنفيذ الاتفاقات وحماية مسارات التفاوض.
 
ومصر شاركت بفاعلية في كل مراحل الصراع والتفاوض. القاهرة كانت – ولا تزال – مركز الحوار، وملاذ الأطراف كافة، بحكم ثقلها الإقليمي ومكانتها الدولية وعلاقاتها المتوازنة مع كل الأطراف، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل والفصائل الفلسطينية.
 
ما يجعل الوساطة المصرية فريدة هو المصداقية والقدرة على التنفيذ. فالاتفاقات التي ترعاها مصر لا تبقى حبراً على ورق، بل تجد طريقها إلى الواقع عبر ضمانات سياسية وأمنية. مصر لا تعرض وساطتها لمكاسب وقتية، بل تراها جزءاً من أمنها القومي واستقرار المنطقة ككل. وهذا ما منحها ثقة الأطراف، وأكسبها لقب “الرقم الصعب” في أي تسوية الذي لا يمكن تجاوزه. فهي أول من خاض الحرب، وأول من صنع السلام، وهي الدولة التي دفعت من دماء أبنائها وأمنها واستقرارها ثمناً باهظاً في سبيل القضية الفلسطينية. ولطالما كانت القاهرة قبلة الفصائل الفلسطينية ومقصداً لكل مفاوضات جادة، بما تمتلكه من وزن استراتيجي وعلاقات متوازنة مع الأطراف كافة .
 
أما قطر، فعلى الرغم القيام بدور الوساطة، فإن دورها يظل محدود الأثر. فهي تفتقر إلى العمق والقدرة على تنفيذ الاتفاقيات، قد تمتلك القدرة على توفير دعم مالي أو فتح قنوات اتصال، لكنها تفتقر إلى الوزن الاستراتيجي الذي تحتاجه قضية بهذا الحجم. وبالتالي، فإن أي دور قطري لا يتجاوز في الغالب إطار الدعم الجزئي، ولا يرقى إلى مستوى الوساطة الشاملة.  مما قد يعرض جهود الوساطة للخطر.
 
إذا أرادت قطر حماية دورها كوسيط وحفظ ما تبقى لها، فعليها أن تعترف بأن دورها في هذا السياق قد انتهى. ومن الضروري أن تفسح قطر المجال لمصر لتعزيز جهودها، بدلاً من خلق مسارات موازية قد تربك المشهد.
 
إن المطلوب اليوم ليس التنافس على الأدوار، بل توحيد الجهود. لأن الوساطة في قضية بهذا الحجم تحتاج إلى دولة ذات مصداقية تاريخية وقدرة تنفيذية، فإن مصر تظل هي الطرف الأكثر جدارة لتحمل هذه المسؤولية وقادرة على إدارة ملفات معقدة بجدية واحترافية. بما تحمله مصر من تاريخ طويل وتجربة متراكمة تجعلها الأجدر بدور الوساطة.
 
يمكن القول إن مستقبل السلام في المنطقة سيظل مرهوناً بقدرة مصر على قيادة مسار الوساطة، فهي الدولة التي تجمع بين الإرث التاريخي والدور المعاصر، وبين الشرعية السياسية والقدرة العملية. ومن هنا، تبقى مصر البوابة الحقيقية نحو أي حل عادل ومستدام للقضية الفلسطينية.
 
إن مصر لم ولن تتخلى عن القضية الفلسطينية، لأنها تراها جزءاً أصيلاً من أمن القومي ودورها التاريخي في المنطقة. ومن ثم، فإن أي تقدم حقيقي نحو السلام سيمر حتماً عبر بوابة القاهرة.