القمص منقريوس المحرقي
بكل فرح وسلام، نتقدم بأحرّ التهاني القلبية إلى كل شعب المسيح وكل العالم في كل مكان بمناسبة حلول عيد النيروز، رأس السنة القبطية المباركة. إنه يوم تفيض فيه القلوب بالشكر لله الذي منحنا بداية عام جديد من نعمته، فنستقبل السنة القبطية بالصلاة، والتسبيح، والرجاء الحي.
عيد النيروز ليس مجرّد تبدّل في الأرقام أو مرور للزمن، بل هو دعوة مقدسة للتأمل في سرّ الحياة المسيحية، حيث ارتوت أرض مصر بدماء الشهداء الأطهار الذين أحبّوا المسيح أكثر من ذواتهم، فصاروا كالحنطة التي سقطت في الأرض وماتت لتُثمر حياة وكنيسة مجيدة.
معنى النيروز وأصله الروحي
كلمة “نيروز” مشتقة من التعبير القبطي “ني يارو”، أي الأنهار، في إشارة إلى فيضان النيل الذي كان يهب الحياة لمصر. هكذا أيضًا، دماء الشهداء صارت أنهارًا حيّة أنبتت إيمانًا عميقًا لا يزول.
ويبدأ التقويم القبطي من سنة 284م، وهي بداية حكم الإمبراطور دقلديانوس، الذي عُرف عهده بـ “عصر الشهداء” بسبب اضطهاداته العنيفة للمسيحيين. ومنذ ذلك الحين صار رأس السنة القبطية ليس مجرد حدث زمني، بل عيدًا للشهادة، حيث نرفع البخور تكريمًا لأبطال الإيمان الذين فتحوا أمام الكنيسة أبواب المجد الأبدي.
الطقوس الكنسية في عيد النيروز
١. القداس الإلهي – عربون فرح أبدي
• تحتفل الكنيسة بقداس مهيب، حيث تُرفع الألحان الفرايحيّة، وكأنها أصوات الشهداء تشاركنا التهليل.
• يُقرأ السنكسار الذي يسرد سير الأبطال الذين جاهدوا الجهاد الحسن، فصاروا شهودًا للمسيح بالدم والحياة.
٢. تسابيح الرجاء
• في هذا العيد، يُرتَّل لحن “إفلوغيمينوس”، وهو لحن شكر لله الذي أعطى كنيسته غلبة على الألم بالمجد.
• تتحول الترانيم إلى صلوات صاعدة، نطلب فيها أن يمنحنا الله قوة لنحيا بشجاعة وإيمان كما عاش شهداؤنا.
٣. تذكار الشهداء وقدوة القديسين
• عيد النيروز هو عيد الذين غلبوا؛ فيه نتذكر أن دماء الشهداء صارت بذارًا للكنيسة، فازدهرت بالإيمان والثبات.
• نُحيي ذكراهم لا بالحزن، بل بالفرح واليقين أن الموت لم يقهرهم، بل صار طريقًا للحياة الأبدية.
الرموز الروحية والعادات الشعبية في العيد
• البلح الأحمر: يرمز إلى دماء الشهداء الطاهرة، بينما قلبه الصلب يعلن قوة إيمانهم وثباتهم.
• الجوافة البيضاء: تعبير عن نقاء قلوبهم وصفاء سريرتهم.
• فيضان النيل: علامة على فيضان نعمة الله، كما فيض دم الشهداء، فأنبت حياة جديدة في الكنيسة.
كما اعتاد الأقباط منذ قرون تبادل التهاني وتقديم البلح والجوافة، في تذكير بأن الشهادة هي أساس الفرح الحقيقي.
البعد الروحي لعيد النيروز
عيد النيروز ليس مجرد احتفال سنوي، بل هو رحلة إيمان عميقة، تعلّمنا أن الحب الحقيقي للمسيح أقوى من الألم والموت.
إنه دعوة للتجديد:
• تجديد قلوبنا في حياة التوبة والنقاء.
• تجديد رجائنا في الرب الذي يحوّل الألم إلى مجد.
• تجديد تمسّكنا بالكنيسة التي بُنيت على دماء الشهداء الأطهار.
ونحن نستقبل عامًا قبطيًا جديدًا، نرفع قلوبنا شكرًا لله الذي أعطانا نعمة الحياة وسط شركة الكنيسة المقدسة. لنجعل هذا العيد انطلاقة جديدة نحو الإيمان الأعمق، والرجاء الأقوى، والمحبة الأصدق.
كل عام وأنتم في ملء بركة المسيح، وليكن عيد النيروز لكم بداية سنة مباركة، يفيض فيها قلبكم بالسلام، ونفوسكم بالرجاء، وبيوتكم بالنعمة والفرح.
“مبارك أنت يا رب في قديسيك، وممجّد في شهدائك، وممجد في كنيستك الحيّة إلى الأبد"