الأجواء والنَّص
كمال زاخر
في عدد سبتمبر 1981 لمجلة مرقس التي تصدر عن دير الأنبا مقار، جاءت الإفتتاحية تحمل عنوان "تصحيح" بقلم الأب متى المسكين، في توقيت كانت الكنيسة تمر بأزمة عاصفة، عقب صدور قرار الرئيس السادات بسحب قرار رئيس الجمهورية باعتماد انتخاب وتعيين قداسة البابا شنودة الثالث، بابا وبطريرك للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، الصادر عن مجمع الكنيسة المقدس، الأمر الذي يعني عزل البابا من منصبه.
وقد كُتب هذا المقال عقب فشل مساعي الأب متى المسكين، وهو يقوم بوساطة، بين الرئيس والكنيسة، عبر اتصالات تليفونية مع رئاسة الدولة، انتهي بلقاء الأب متى المسكين مع الرئيس بمقر رئاسة الجمهورية، وعلى جانب أخر كان اتصال الأب متى بشكل مباشر مع قداسة البابا شنودة الثالث في مقره بدير الأنبا مقار، في تنقلات مكوكية للأب متى بين ديري الأنبا مقار والأنبا بيشوي؛ وذلك لتوفر خط تليفون أرضي وحيد بديره، يحمل من خلاله الأب متى ردود البابا خطوة بخطوة، ولم يكن متوفراً بمقر إقامة قداسة البابا مثله وقتئذ، في محاولة للوصول إلى مخرج للأزمة الحادة التي ترتبت على قرار قداسة البابا (والتي أقره مجمع الكنيسة تمريراً)، والذي يقضي بعدم صلاة قداس عيد القيامة في ذات السنة (الأحد 26 إبريل) بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية والامتناع عن استقبال المهنئين الرسمين من الدولة بالتبعية، والاكتفاء بصلاة قداس العيد بالدير مع رهبانه.
الأمر الذي حسبه الرئيس السادات نوعاً من إعلان الاعتصام الإحتجاجي، ويشكل مأزقاً له أثناء وجوده بالولايات المتحدة، ولقائه مع الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، في محاولة منه لإقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن معارضتها لإجراء اتصالات مع منظمة التحرير الفلسطينية، في سياق جهود السلام، بعد اتفاقية كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وقعت في واشنطن العاصمة بالولايات المتحدة في 26 مارس 1979.
ويذكر في هذا الصدد أنه عقب اعلان الكنيسة قرارها جرت اتصالات رفيعة المستوي جرت بين مؤسسة الرئاسة وسكرتارية قداسة البابا شنودة، الذي اعتكف بديره، أولها من السيد حسني مبارك نائب الرئيس وقتها، وثانيها من السيدة جيهان السادات، حملتا مضموناً واحداً، هو ابلاغ قداسته برجاء إقامة قداس العيد بالكاتدرائية، رفعاً للحرج عن الرئيس، ونقل كليهما عزم الرئيس بتسوية الأسباب التي ادت لاعتكاف قداسته، فور رجوعه من زيارته للولايات المتحدة، شريطة الغاء القرار والصلاة في الكاتدرائية.
تلقي هذه الاتصالات سكرتير البابا وقتئذ الراهب القس اغاثون الأنبا بيشوي، وقام بحسب رأي وتوجيه الأنبا صموئيل، اسقف الخدمات، بالسفر تواً إلى الدير وعرض الأمر على قداسة البابا، لكنه أصر على موقفه، رافضاً وساطة الأب متى المسكين ورافضاً رجاءات مؤسسة الرئاسة.
ونشرت جريدة الأهرام صورة لاستقبال الرئيس السادات للأب متى المسكين في القصر الرئاسي، وفيه أخبره بقراره عزل البابا وتعيينه بديلاً له، فأوضح له أن قوانين الكنيسة تمنع إقامة بطريرك جديد في حياة البطريرك الموجود، وتحرم من يقبل بذلك، لكن الرئيس أصر على موقفه،
ولم يجد الأب متى أمام غضب وشراسة الرئيس إلا إقتراح تخفيف حدة القرار، بتعيين لجنة من مطارنة الكنيسة الأتقياء لتصريف أمور علاقة الكنيسة بالدولة، واشترط إلا يكون اسمه ضمن أعضاء اللجنة؛ وهو ما تم بالفعل إذ صدر قرار بتشكيل لجنة بابوية من الأباء المطارنة: الأنبا مكسيموس مطران القليوبية، والأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمي، والأنبا يوأنس مطران الغربية، والأنبا اثناسيوس مطران بنى سويف، والأنبا صموئيل اسقف الخدمات، الذي اغتيل في حادث المنصة 6 اكتوبر 1981، فتم تعيين الأنبا باخوميوس مطران البحيرة عوضاً عنه.
قوبل قرار تعيين اللجنة الخماسية بغضب شعبي، لكن مذكرات افراد اللجنة تسجل أنهم كانوا يعودون في قراراتهم قبل اصدارها للبابا في ديره، وإن كانت قد تصدت لبعض المشاكل العالقة، في سبيل حلها داخل الكنيسة فيما رأته أمراً تنظيمياً لا يحتاج للعرض علي البابا.
في هذه الأجواء يكتب الأب متى مقاله في افتتاحية مجلة مرقس سبتمبر 1981، وهو لا يتعرض لأحداث تلك الأيام المؤلمة، لكنه يعرض رؤيته بقراءة كتابية كنسية في فهم المتاعب والضيقات وكيفية التعاطي الكنسي لها، عبر ثنائية الصليب والقيامة،
وهي رؤية بالضرورة لا تجد قبولاً ولا اتفاقاً مع الرؤي السياسية، لكنها تتسق مع موقف الرب يسوع المسيح من تلميذيه، عندما رفضته قرية للسامريين، فلما راى ذلك تلميذاه يعقوب ويوحنا قالا: «يا رب اتريد ان نقول ان تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل ايليا ايضا؟» فالتفت وانتهرهما وقال: «لستما تعلمان من اي روح انتما! 56 لان ابن الانسان لم يات ليهلك انفس الناس بل ليخلص». (لوقا 9 : 51 ـ 56).
للكنيسة منهج محكوم برؤيتها للعالم وصراعات الحقوق، وللسياسة مناهج.
يسألوننى: ماذا حدث؟
وما رأيك؟
تصحيح
الأب متى المسكين
حين تنحجب الحقيقة، تتعتم الرؤية، فتتعثر المسيرة، ويضيع الهدف.
لقد واجه التلاميذ هذه المحنة مرتين، الأولى والمسيح صاعد إلى أورشليم ليصلب؛ كان الصليب حينئذ حقيقة، لكن التلاميذ أخفقوا في استعلانها، فجزعوا من قبولها. فلما أكد المسيح حتميتها، ملأ الحزن قلوبهم، وانبرى بطرس الرسول ناصحاً، ليصد المسيح عن قبولها؛ فاعتُبرت نصيحته جهالة وإملاء من الشيطان :"اذهب عني ياشيطان، لأنك لا تهتم بما لله ولكن بما للناس" (مر 8 : 33).
والذي يعثر في حقيقة الصليب كطريق للقيامة، كيف يقبل حقيقة القيامة؟ لذلك نجد التلاميذ في نفس المحنة مرة أخري، حينما وقفوا حيارى أمام لحظة إعلان القيامة، فبدأ المسيح مرة أخرى، موبخاً أيضاً: "أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء، أما كان ينبغي أن المسيح أن يتألم بهذا (يُصلب) ويدخل إلى مجده (القيامة)" (لو 24 : 25، 26).
والإنجيل كله يقع بين هاتين الحقيقتين: حقيقة الصليب، وحقيقة القيامة. ولكن العجيب حقاً، والذي يتحتم أن نحفظه عن ظهر قلب، أن الصليب لم يعد يُحسب لحامليه عاراً أو مهانة بكل أوضاعه، بل نصرة ومجداً؛ فهو الجزء المنظور من القيامة. أما القيامة التي نحسبها قمة الفرح والمجد، فتظل مستورة عن أعين الناس والعالم، ولا يستشعرها القلب إلا نبضات حياة تأتية من وراء موجات ألم الموت.
الكلام هنا لكل المدعوين للقيامة ـ بحكم الإيمان ـ الهاربين من غُصَّة الألم وعار الصليب. فالذين يطلبون القيامة، كنيسة وأفراداً، ينظرون إلى فوق، ويطلبون ما فوق، حتى وإن كانت أرجلهم تسير على درب الصليب. والوعد أمين. أصدق من كل منطق،"اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم" (متى 6 : 33).
لقد عاشت الكنيسة هذه الحقيقة، وبالأخص هنا في مصر، ألفي سنة، فكانت وستظل آية لصدق المواعيد؛ ولكن في لحظة ضاعت من الكنيسة حقيقة الصليب، وأخفقت العين من النظر إلى فوق، وتعتمت الرؤيا، وانصبَّ الظلام على عيد "القيامة"، واتحدت الأصوات لإلغائه؛ وهكذا ضاع الصليب، ضاعت القيامة، وعوض حقيقة الملكوت، جلسنا نبحث عن حقوقنا المدنية، وعاد داود يخطئ خطيته غير المغفورة (*)، وبدأ يعد شعبه ليقيس النصرة على مستوى العدد، ونسي أن الواحد مع الله بألف، والألف بدون الله هم ـ لا محالة ـ مضروبون في صفر.
وفي غيبة من الروح القدس، استشعرت الكنيسة أنها حزينة، مكروهة، وبلا عيد؛ مع أنها مصدر الحب والأعياد، ومصدر الفرح لكل الخليقة وعلى الأرض كلها، ولا يستطيع أحدٌ، بل ولا كوارث الدنيا بأسرها، أن تنزع فرحها منها، لأنه فرح الله الذي ينحدر إليها من وراء الزمان.
والذين لم يستحسنوا أن يُبقوا الله أساساً لوجودهم، ومصدر بركة لحياتهم، نظروا فرأوا أنفسهم أقلية معوزة: مع أننا نحن الأقباط لم نكن أقلية قط، ولم يعوزنا الله شيئاً، ولن نكون معوزين، فنحن من روح مصر المباركة من فم الله، وروح مصر لا تتجزأ. التراب وحده الذي يتقسَّم، والبلاد والأنهار والقبور، أما الروح فهو الحب، والود، والإخاء، والقداسة، والنداء باسم الله. فكيف نكون في هذا قِلَّة، ونح نفيض من الله على كل الدنيا.
الذين يُحلِّلون الحوادث، ويفحصون الأمور من ظواهرها، يجدون أسباباً كثيرة في الداخل والخارج، صنَعت ما صنَعَت فينا وبنا، ولكن ستظل الحقيقة التي لا تحتاج إلى تحليل، أننا ذهبنا بعيداً عن الوصية، وزحزحنا التخوم التي التزم بها آباؤنا،
فهل من تصحيح؟.
(*) أمر داود رئيس جيشه أن يَعُدَّ الشعب. ولما راجعه رئيس جيشه في ذلك، أصر داود على ذلك. وتم التعداد ووصل خبره إلى داود. لكن داود رجع وأحس بخطئه، وصلى قائلاً "لقد أخطأت جداً فيما فعلت. والآن يارب أزِل إثم عبدك، لأني انحمقت جداً". وفي الصباح كان كلام الرب إلى جاد النبي، أن يذهب إلى داود ويبلغه قضاء الرب على داود والشعب. فجعل الرب وبأ في الصباح إلى لاثة أيام. ومات من الشعب سبغون ألف رجل.
(صموئيل الثاني أصحاح 24)
