كمال زاخر يكتب: "الإعلام الرسمي المصري في زمن الفضاء الإلكتروني"
قفز أمامي قول: "المفاتيح القديمة لا تفتح الأبواب الجديدة"، وأنا أتابع ما يحدث في دوائر الإعلام المرئي والورقي من محاولات بعثه مجددًا للحياة، ودوائر رسم العقل الجمعي، وقد انتُزعت جدواه بالدخول في فضاءات الثورة الرقمية والفضاء الإلكتروني.
فما يحدث هو تكرار للعبة الكراسي الموسيقية! وفيها تخرج أسماء وتحلّ غيرها، والمقاعد تتقلص ثِقلاً وتأثيرًا، بينما الخارجون والقادمون ما يزالون مكبَّلين بقيود البيروقراطية، وإرثها العميق والثقيل، والخوف من المغادرة.
تكشف المرايا أنهم لم يبرحوا معطيات العمل بالقلم "الكوبيا" ودفتر اليومية العتيق، والبدلة المترهلة، والطربوش الذي يحمي الرأس بمنديله المحلاوي من قيظ الشمس. وينتظرون توجيهات ممَّن بيدهم الأمر ليفرغوها في أدمغة تابعيهم، ويمثّلون البيروقراطية العدوَّ الحقيقي للجمهورية الجديدة الجنينية.
قفزات للإعلام الرقمي
فيما يقفز الإعلام الرقمي قفزاتٍ واسعة، تجعل ملاحقته ومحاصرته المستحيل الرابع بعد الغول والعنقاء والخِلِّ الوفي. وبعد أن صار الإعلام الرقمي في كل يد، حتى أبعد نقطة على الخريطة، يحاصر المتلقي بفيضان من الأخبار والمعلومات، وغير قليلٍ منها تصنعه لجان داخل غرف أجهزة صناعة الرأي وأجهزة الاستخبارات باتساع العالم، ويختلط فيها الحابل بالنابل، والغُثُّ بالثمين.
وعلى الجانب المتلقي، تحجز الأمية الفكرية بل والأبجدية مكانًا أثيرًا، فيسهل اقتياده إلى أحراش اليأس والإحباط، وتأسر عقله في الحلول الميتافيزيقية، فلا عملَ ولا إنتاجَ ولا تنميةَ، ولا شغفَ أو طموحَ. وهكذا تُحرَث الأرض لتُبذَر فيها بذور التشكيك التي تخنق الانتماء والتكاتف.
ربما لهذا، تتقافز علامات الاستفهام والتعجب حين نرى ونسمع عن اقتراحات عودة الكتاتيب التي غادرناها قبل قرنين من الزمان، وركبنا قطار التعليم الحديث الذي قاده أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، والعميد الدكتور طه حسين، والبابا المستنير كيرلس الرابع، الذي أسس سلسلة من المدارس العامة لكل المصريين، وشرع أبوابها للبنات ليسبق في هذا دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة بنحو ثلاثة عقود، واستقدم ثالث مطبعة بعد مطبعة محمد علي والمطبعة الأميرية.
وقد اغتيل هذا البابا بدسِّ السم في طعامه، ولم يكن قد أكمل عشر سنوات في موقعه (1853 ـ 1861)، وبقي القاتل مجهولًا، وتفرقت دماؤه بين المستعمر والقصر والرجعية والحرس القديم.
إلغاء العقل النقدي
اللافت أن تُواكِب هذه الدعوة الملغومة إلغاء المواد التي تُشكِّل العقل النقدي الواعي: الفلسفة والمنطق والتاريخ، لتحلَّ مادةُ الدين محلَّها. بل ونسمع من يتساءل عن جدوى كليات الآداب وأقسامها. ولم نسمع منهم عن تطوير وتحديث ودعم المدارس الثانوية الصناعية كعاملٍ رئيسيٍّ في قيام صناعة متطورة، تستطيع أن تجد لها قدمًا في الأسواق العالمية.
ولأن الدين خطٌّ أحمر ــ وهو كذلك فعلًا ــ أصبح تناول بروتوكولات وزير الأوقاف مع المؤسسات الإعلامية ووزارة التربية، بل ووزارات الصناعة والشباب والرياضة... وغيرهما، يُحسَب مساسًا بالدين يستوجب التوقيف والمساءلة!! رغم أن مسؤولية الوزارة هي إدارة الأوقاف وإعداد الأئمة وحسب.
ثم يُفاجئنا منشورٌ حملته فضاءات الفيسبوك منسوبًا إلى السيد رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، يحمل رقم 12808، صادرًا في 1/9/2025؛ وهذا نصه:
السادة رؤساء القطاعات
السيد رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون
السيد رئيس الموقع الموحَّد
السيد رئيس أكاديمية ماسبيرو
تحية طيبة.. وبعد،
يُرجى التفضُّل بالتنبيه بالآتي:
عدم مشاركتكم أو أيٍّ من العاملين في أي اجتماعات أو ندوات أو مؤتمرات تنظِّمها أية جهات خارجية، وكذلك عدم الإدلاء بأيّة تصريحات صحفية أو التعامل مع الميديا المقروءة أو المسموعة إلا بعد الرجوع إلى رئاسة الهيئة، والحصول على موافقة صريحة من السلطة المختصة، تجنُّبًا للمساءلة القانونية.
خالص تحياتي،،،
أحمد المسلماني
رئيس الهيئة الوطنية للإعلام
1 سبتمبر 2025
احتياجات المرحلة
ورغم أنه لم يصدر تعليق رسمي يؤكِّد أو ينفي هذا المنشور، إلا أنني أظن أنه مدسوس على رئاسة الهيئة الوطنية للإعلام، إذ يتنافى مع أبسط مقومات عمل الإعلام، الذي لا ينفرد بالساحة الإعلامية؛ فالفضائيات الناطقة بالعربية، والتي تبث عبر قمر "نايل سات"، بالعشرات وغير مشفَّرة، وبعضها لا يخفي هويته المناوئة لمصر، قيادةً ودولةً. فلو صحَّ هذا لصرنا أمام انفراد إعلامي كارثي لا نظير له، يُفرِّغ أعرق مؤسسة إعلامية، لها ثِقَلها من المحيط إلى الخليج، من جدواها، ويهدم واحدة من أعتى قوى مصر الناعمة والفاعلة.
المؤشرات الاقتصادية الصادرة عن هيئات اقتصادية دولية تبشِّرنا بأن اقتصادنا يمر بمرحلة تعافٍ، بل وكتب بعض الاقتصاديين الثقات ــ من خارج المؤسسات المصرية الرسمية ــ يتساءلون عن إعدادات ما بعد مرحلة صندوق النقد الدولي، الأمر الذي يقترب بنا من رسم ملامح الجمهورية الجديدة.
هي مرحلة تحتاج إلى وضوح الرؤية الاقتصادية، وإسنادها إلى عقولٍ مُبادِرة تملك حصافة التفكير خارج الصندوق برؤى خلاقة، يدعمها إعلام وتعليم وبُنى ثقافية إبداعية تؤسِّس لمدنية الدولة، وتدعم مؤسسات الدولة الثلاث ــ بحسب الدستور ــ في توازنٍ وتكامل، وتواجه سعيَ إعادة بعث تديين السياسة والفضاء العام.
نقلا عن فَكّر تاني