د. ماجد عزت إسرائيل 
 كلمة الخِدْمَة في اللغة العربية أصلها الاسم (خَدَم)، وجمعها خِدَم، وجذرها (خدم)، وجذعها خدم، وصيغتها التحليلية: (ال +خدم + ة). وهي في معناها العام تدل على المساعدة أو القيام بعملٍ للآخر. وفي الاستعمال الحديث، يُعرّفها علم الإدارة بأنها: وسيلة لتوصيل قيمة إلى الآخرين عن طريق تيسير النتائج التي يريدون تحقيقها دون أن يتحملوا هم التكاليف أو المخاطر. أما في ضوء الإيمان المسيحي، فقد ارتقى هذا المعنى ليتجاوز البعد الوظيفي أو الاجتماعي إلى دعوة روحية، تجعل من الخدمة شركة مع الله ومحبة متجسدة تجاه الإنسان.

 والخدمة في المسيحية هي شرف كبير ودعوة إلهية يشترك فيها الإنسان مع الله في عمل الخلاص وبنيان الملكوت. فهي ليست مجرد عمل اجتماعي أو نشاط كنسي، بل مشاركة حقيقية في محبة الله للإنسان، إذ يسمح الرب للمؤمن أن يكون أداة لعمل نعمته في العالم.إنها قبل كل شيء تعبير عملي عن المحبة: محبة المؤمن لله أولًا، ثم انعكاس هذه المحبة تلقائيًا في محبته لإخوته في الإنسانية. وتبدأ الخدمة في حياة الخادم بخلوته وصلاته الشخصية، ثم تمتد إلى أسرته ومجتمعه، وتنطلق لتشمل كل من يلتقيه.فالخدمة أيضًا ثمرة حياة الإيمان والشبع بالمسيح، فمن لم يختبر محبة المخلِّص وخلاصه لا يقدر أن يعطي هذه المحبة للآخرين. ولذلك فإن التتلمذ على كلمة الله شرط أساسي للتقدُّم في الخدمة. والكتاب المقدس يحدد أساس الخدمة بوضوح من خلال الوصية العظمى:"تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ... هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى.. والثانية مثلها: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ" (مت 22: 37–39). وهكذا، فإن ثمرتها هي شبع داخلي بالمسيح يفيض في صورة عطاء دائم، مباشر أو غير مباشر، في كل مكان وكل ظرف.أما قدوتها فهو السيد المسيح نفسه، الخادم الأمين الذي"الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ، لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ." (أع 10: 38) ، والذي علّم تلاميذه أن يكونوا وكلاء أمناء يعطون "طعامهم- الْعُلُوفَةَ- في حينه" (لو 12: 42).وأيضًا" وَأَنْتَ تُعْطِيهِمْ طَعَامَهُمْ فِي حِينِهِ." (مز 145: 15).فالخلاصة إذن: إن الخدمة هي حياة محبة متجسدة، شبع بالمسيح يتحول إلى عطاء، وأمانة في تنفيذ وصية الله بمحبة الله والقريب، بما يجعلها أسمى صور الشركة مع الله في عمله الخلاصي. 
   
  وإذا كانت الخدمة هي تعبير عملي عن محبة الله، فإن الكنيسة تُترجم هذه المحبة من خلال أدوار متكاملة يقوم بها كل شخص بحسب دعوته ومسؤوليته، سواء في الكهنوت أو بين الخدام والخادمات أو في حياة الشعب المؤمن. فرجال الكهنوت هم مرشدون ومعلمون يقودون الشعب إلى معرفة الله. ويقول الكتاب: "أَطِيعُوا مُرْشِدِيكُمْ وَاخْضَعُوا، لأَنَّهُمْ يَسْهَرُونَ لأَجْلِ نُفُوسِكُمْ كَأَنَّهُمْ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَابًا، لِكَيْ يَفْعَلُوا ذلِكَ بِفَرَحٍ، لاَ آنِّينَ، لأَنَّ هذَا غَيْرُ نَافِعٍ لَكُمْ." (عب 13: 17). ومن هنا يتضح أن دور الكاهن هو دور الراعي الذي يسهر على الخراف، ويقدم التعليم الصحيح، ويرشد المؤمنين بروح المسؤولية والأمانة. فالكهنوت ليس امتيازًا، بل تكليف ثقيل، إذ يُحاسب الكاهن أمام الله عن كل نفس أؤتمن عليها. ومن ثمّ، فإن شرط الخدمة الكهنوتية أن يكون الكاهن قدوة حقيقية في أقواله وأفعاله أمام الرعية. ومع ذلك، فإن الخدمة لا تقتصر على الكهنوت وحده، بل يشترك فيها جميع المؤمنين كلٌّ بحسب موهبته. ويؤكد بولس الرسول ذلك بقوله: "خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ." (2 تي 4: 11). فالخادم الحقيقي هو من يعمل بتواضع، ويضع احتياجات المخدومين فوق راحته، كما أوصى الرب: «تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ وَاعْمَلْ. لاَ تَخَفْ وَلاَ تَرْتَعِبْ، لأَنَّ الرَّبَّ الإِلهَ إِلهِي مَعَكَ. لاَ يَخْذُلُكَ وَلاَ يَتْرُكُكَ حَتَّى تُكَمِّلَ كُلَّ عَمَلِ خِدْمَةِ بَيْتِ الرَّبِّ." (1 أخ 28: 20).

   والكتاب المقدس يوضح أن الخدمة لا تنبع من القوة البشرية، بل من حلول الروح القدس: "«رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ،" (لو 4: 18) ؛ " (إش 61: 1). فالخادم مدعو أن يعيش حياة مملوءة بالروح، ليصير لسان الله ويده الممتدة للضعفاء والمنكسرين.والخادم – سواء كان كاهنًا أو شماسًا أو خادمة – مدعو أن يكون قدوة صالحة، كما يقول الكتاب: "اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ."(عب 13: 7). فالقدوة هي أبلغ وسيلة للخدمة، إذ يرى الناس في حياة الخادم صورة المسيح الحي.كذلك، فإن الخدمة ليست عملًا فرديًا، بل هي شركة في الجسد الواحد. ويؤكد الكتاب ذلك بقوله: «اذْهَبِ انْظُرْ سَلاَمَةَ إِخْوَتِكَ وَسَلاَمَةَ الْغَنَمِ وَرُدَّ لِي خَبَرًا» (تك 37: 14). فالخدمة تتطلب متابعة دائمة ومحبة صادقة، ومشاركة حقيقية في آلام الآخرين، كما يحث الرسول: "اُذْكُرُوا الْمُقَيَّدِينَ كَأَنَّكُمْ مُقَيَّدُونَ مَعَهُمْ" (عب 13: 3).

 وللأسف الشديد،نلمس اليوم بعض النماذج من الإكليروس الذين لا يدركون المعنى الحقيقي للخدمة،وكأنها صارت لديهم مجرد منصب أو وسيلة اجتماعية. فقد تُجرى السيامة أحيانًا بدافع انتماء عائلي للكهنوت،أو لاستكمال عدد الأسرار،أو كنوع من الوجاهة الاجتماعية. بل قد ينظر بعضهم إلى الكهنوت كفرصة للسفر إلى دول المهجر والعمل هناك، فتتحول الخدمة من رسالة روحية إلى وظيفة دنيوية، ينشغل فيها الكاهن بالمكاسب المادية والرحلات أكثر من اهتمامه بالرعية والشعب الذي أؤتمن على خدمته. وبهذا يفقد الكهنوت جوهره كدعوة روحية لخدمة المسيح، ويتحول إلى مجرد إطار شكلي.وكذلك الأمر قد يُرى أحيانًا بين الخدام والخادمات، حيث يتعامل البعض مع الخدمة بمنطق إداري بحت: هذا مسؤول عن أمين الصندوق،وذاك عن اجتماع الشباب أو مدارس الأحد، من غير روح الوحدة التي دعا إليها المسيح. ولكن الحقيقة الجوهرية أن الخدمة – كهنوتًا كانت أو خدامًا أو خادمات – لا تقوم إلا بروح المحبة التي بلا رياء، تلك المحبة التي تجعل الجميع جسدًا واحدًا يعمل بتناغم لأجل بنيان الملكوت. وهنا تتجلى كلمات الرسول بولس:"اَلْمَحَبَّةُ فَلْتَكُنْ بِلاَ رِيَاءٍ. كُونُوا كَارِهِينَ الشَّرَّ، مُلْتَصِقِينَ بِالْخَيْرِ." (رو 12: 9).

الخلاصة أن الخدمة في ضوء الكتاب المقدس هي تجسد عملي للمحبة المسيحية، سواء من خلال الكهنوت الذي يقود ويرعى، أو من خلال الخدام والخادمات الذين يشاركون في التعليم والافتقاد والإرشاد. وهي دعوة إلى بذل الذات، كما يقول الرسول بولس: "بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا."(1 كو 9: 27). فالخادم الحقيقي هو من يعيش أولًا ما يعلّمه، ويقود الآخرين بروح التواضع، مثابرًا في الصلاة، عاملًا بالمحبة، شاخصًا دائمًا إلى المسيح الذي هو المثال والقدوة.