كمال زاخر 
دعونا ننطلق من نقطة البداية "المسمى"، الذى لا يتسق مع رسالة الكنيسة، التى تقر التأديبات الكنسية على غرار العائلة التى تؤدب اولادها ولا تحاكمهم، والسلطان فيها روحياً وليس مادياً، وهو "سلطان المحبة التى تظهرها الكنيسة تجاه اعضائها وسلطان الطاعة التى يظهرها المؤمنون ـ طواعية ـ تجاه الكنيسة" بحسب تعبير أحد الآباء المعاصرين.

وغاية التأديبات الكنسية تتجاوز إنزال عقاب على المخطئ بل "رده عن طريق ضلاله"، وهنا تتضح فلسفة العقوبة الكنسية، وفى هذا يقول أحد الباحثين "أن الحكم الكنسي في حالة التأديب الكنسي على الأخص يهدف إلى شفاء التائب. ومن هنا بدأ يظهر الخيط الذهبي الرعائى الذي يتغلغل في أحكام التأديب الكنسي في العهد الجديد، فهو تأديب للخلاص والشفاء وليس للعقاب والقصاص والانتقام، كما كان في مجتمع الدولة الرومانية القديم "للانتقام من فاعلي الشر" (ابط 2: 14).

ويحدد الباحث في كتابه الذي اشرنا إليه (التأديبات الكنسية فى الكتاب المقدس والتقليد والقانون الكنسى). 

أهم سمات طقس التائبين وقانون التأديبات الكنسية في كنيستنا القبطية:
ـ التأديب الكنسي علاج وشفاءٌ من المرض الذي يكمن في نفس التائب.
ـ لابد أن يكون لقانون التوبة زمن محدد؛ هو "زمان التوبة".
ـ كما أن ليس لكل الخطايا حكم واحد. كما تختلف أعمال التوبة المفروضة بحسب أنواع الخطايا، كما يشرح ذلك الفصل الثامن من الدسقولية بأكمله:
[ولا تحكموا حكماً واحداً على الخطايا كلها بل كقدر كل خطية، بفهم عظيم تفحصون كل واحدة من الخطايا ... فبعضٌ تقمعهم بالتهديدات فقط، وبعضٌ تحكم بأن يعطوا رحمة للمساكين، وأقوام تحدد لهم أصواماً، وآخرون تُخرجهم من البيعة إلى مدة معلومة] فصل 68،70 
ونجد أمثلة لهذه الممارسات في الرسالة القانونية للقديس غريغوريوس صانع العجائب (رسالة رقم 11 ، قوانين القديس باسيليوس رقم 4 و56 و82).
ويورد الباحث استثناء جدير بالتوقف عنده: إنه استثناء الذين يشرفون على الموت وهم تحت التأديب الكنسي. فإنه كانت تجرى مصالحتهم متضمنة نوالهم سر الإفخارستيا ، كما أمر بذلك صراحة القانون 13 من مجمع نيقية المسكوني (سنة 325)، كاستثناء من حَرفية القانون يتَّصف بالرحمة والمحبة (التي لا تغيب أبداً في كل معاملات خدام الكنيسة) في هذا الظرف الاستثنائي:

[ فيما يختص بالمحتضرين ، فالقانون القديم لا يزال معمولاً به، أعنى إذا أشرف شخص على الموت فيجب ألا يحرم الزاد الأخير الذي لا غنى عنه. أما إذا عادت إليه صحته وكان قد مُنح الشركة حين قطع الأمل من حياته، فليقف مع صف المشتركين في الصلوات لا غير. وعلى الإجمال، إذا احتضر شخص وطلب أن يُناوَل القربان فليمنحه الأسقف سؤله بعد الفحص]- القانون رقم 13 من مجمع نيقية المسكوني ( كما يرد مثيل لهذا القانون في القانون رقم 73 من مجموعة قوانين القديس باسيليوس).
وفى الوثيقة الإيمانية الأولى (الكتاب المقدس) يؤسس ق. بولس فى رسالتيه الى كنيسة كورنثوس منهجاً كنسياً رائداً فى قضية التأديب الكنسى، فبعدما أصدر قراره لشخص إرتكب واقعة (زنى محارم)، فى رسالته الأولى: "فانتم منتفخون وبالحري لم تنوحوا حتى يرفع من وسطكم الذي فعل هذا الفعل. فاني انا كاني غائب بالجسد ولكن حاضر بالروح قد حكمت كاني حاضر في الذي فعل هذا هكذا. باسم ربنا يسوع المسيح اذ انتم و روحي مجتمعون مع قوة ربنا يسوع المسيح.ان يسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع." (رسالة القديس بولس الرسول الأولى إلى كنيسة كورنثوس اصحاح 5)

ولأن الكنيسة لا تقر العقوبة المفتوحة، وهى تعاقب بحنو الأبوة، فقد بادر ق. بولس فى رسالته الثانية بطلب العفو عن هذا المخطئ ، لأنه أى القديس بولس يعيش فى حالة حزن من أجله بكل مشاعر الأبوة فيقول لهم : لاني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت اليكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولا سيما من نحوكم. ولكن ان كان احد قد احزن فانه لم يحزني بل احزن جميعكم بعض الحزن لكي لا اثقل. مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من الاكثرين.حتى تكونوا بالعكس تسامحونه بالحري وتعزونه لئلا يبتلع مثل هذا من الحزن المفرط. لذلك اطلب ان تمكنوا له المحبة. لأني لهذا كتبت لكي اعرف تزكيتكم هل انتم طائعون في كل شيء. والذي تسامحونه بشيء فانا ايضا لاني انا ما سامحت به ان كنت قد سامحت بشيء فمن اجلكم بحضرة المسيح. لئلا يطمع فينا الشيطان لاننا لا نجهل افكاره." (رسالة القديس بولس الرسول الثانية إلى كنيسة كورنثوس اصحاح 2)

كانت إشكالية "المكمات الكنسية" تؤرق أسقف التعليم، الأنبا شنودة، حتى أنه أفرد لها إفتتاحية مجلة الكرازة (يناير وفبراير 1965)، أى المقال الأول للعدد الأول من المجلة الجديدة، وهى بمثابة بحث كتابى آبائى موثق يستعرض فيه أهمية الكنسية '> المحاكمات الكنسية وضوابطها، ثم يختتمه بسؤال وإجابته؛ كان السـؤال: ماذا يفعل الأسقف بالخاطئ بعد معاقبته ؟...     
      
وكانت الإجابة: يقول الآباء الرسل فى الباب الرابع من الدسقولية (أحد أعمدة الكتب القانونية الكنسية التراثية) [والذى مال ياأسقف أعدله]، [لا تدعه خارجاً بل إقبله .. الذى ضل، إسأل عنه] ، بل يصل حنان الآباء الرسل إلى حد قولهم [فليحمل الأسقف على نفسه إثم ذاك الذى أخطأ، ويصيره خاصة له. ويقول للمذنب إرجَع أنت. وأنا أقبل الموت عنك، مثل سيدى المسيح].

وفى تاريخ الكنيسة المعاصر نجد فى نهج قداسة البابا كيرلس السادس تطبيقاً عملياً حياتياً لمفهوم التأديبات الكنسية، باحتضانه للمشكو فى حقه خاصة عندما يكون من الاباء الكهنة، ودعوته لملازمته فى قداساته اليومية، ايماناً منه بقدرة المذبح على تقويم المعوج وضبط حياته، وعودته خادماً نقياً غسلته صلوات الليتورجيا وما اكتسبه من ملاصقته للبابا الحكيم.

ومن ثم فان محاكمة ـ تأديب ـ من يُحاكَم،  تبدأ بفحص وقائع الاتهام بمعرفة لجنة تحقيق داخل الايبارشية، وتستدعي المتهم، وتناقشه فيما هو منسوب إليه، وتستمع لدفوعه، وشهوده، فإن تكون عندها رأي، تصدر قرارها، فإن كان القرار بالادانة، وتقرر لها عقوبة، يحق للمدان إستئناف القرار أمام جهة كنسية أعلى بحسب ترتيب الدسقولية التى تعطيه هذا الحق، بنصوص واضحة، بأن يلجأ الى المجمع المقدس أو الى البابا. وفي كل الأحوال تكون الجلسات علنية، ما لم يطلب المحال للمحاكمة غير ذلك، أو إذا تعلق الأمر بامور تمس اشخاص أخرين، وهو أمر تقديري يترك لهيئة المحكمة.

ولعل اباء مجمع الكنيسة برئاسة قداسة البابا يضعون نقطة فى نهاية سطر مؤرق للكنيسة، بتكليف لجنة مجمعية قانونية ينضم اليها رجال قانون من القضاة والمستشارين والفقهاء القانونيين من ابناء الكنيسة لوضع وصياغة تقنين منظومة القضاء الكنسى وفقاً لما تقول به المراجع الكنسية الكتابية والآبائية، تتضمن من وجهة نظري:

• تحديد وتوثيق ما يحسب خطأ يستوجب المساءلة، وما يقابله من تأديب وفقاً للضوابط الكنسية، "فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، ويراعى في هذا اتساق التأديب مع الخطأ المقابل، وأن يكون التأديب محدد المدة، فلا توجد عقوبة مفتوحة، ويكلف أحد الآباء ـ أو أحد الخدام ـ المختبرين الأتقياء، بمتابعته وافتقاده وارشادة خلال فترة التأديب، ترتيباً علي هدف الكنيسة "التوبة والخلاص".

• تحديد الهيكل القضائي الكنسي ودرجاته، المواصفات والصلاحيات، على غرار ما استنه موسى النبي فىي تدبير شعبه. 

• تحديد الإجراءات التي تنظم الادعاء، والإحالة، ونظام الجلسات، وحق المحال في الدفاع عن نفسه بنفسه، وحقه في الاستعانة بمن يدافع عنه من المحامين من ابناء الكنيسة، يلتزم بها كل الآباء الأساقفة، وتعلن على الكافة.

• أن تضم هيئة المحكمة، اكليروس ومدنيين، من رجال القانون، محامون وقضاة وفقهاء قانون، وألا ينفرد الأب الأسقف بالقرار، التزاماً بما انتهت إليه، وله أن يستأنف الحكم أمام هيئة قضائية كنسية أعلى، استئناساً بالنظم المتبعة فى المحاكم العامة، لضمان تحقيق العدالة بأقصى ما يمكن، وضمان عدم التعسف في استخدام السلطة، وحلول الموضوعية محل الشخصنة.

• يكون الحكم نهائياً وباتاً بعد اسنفاذ درجات التقاضي واعتماده من قداسة البابا. 
سلام ونمو ونجاح الكنيسة في رسالتها من وراء القصد.