بقلم الأب يسطس الأورشليمى
إنها اعتزال ما قد دخل إلى طبيعتنا كأمر غريب، وقبُول ما هُو لله، فهي تحمل عمليتين متلازمتين متكاملتين: (1) تفريغ..   (2) امتلاء..

أولاً: تفريغ عن الشرّ الذي تسرب إلى طبيعتنا خلال اعتزالنا الله..
ثانياً: امتلاء من الله نفسه القُدوس كسر حياتنا، مصدرها ومنبعها..

فإن كان الله هُو القُدوس، فحياتنا الفاضلة هي أن تتحقق إرادته المُقدسة فينا، نحمل قداسته داخلنا ونكُون قديسين فيه، ندخل بالرُوح القُدس الذي يأخذ مما للمسيح ويُخبرنا (يو14:16)، ليس بالكلام فقط، وإنما يُخبرنا عملياً، فيحوّل فكرنا إلى فكر المسيح، وتصير إرادتنا هي إرادته، وأعضاؤنا أعضاؤه وآلامنا آلامه، يتجلى في حياتنا وسلُوكنا..

إذ يتحدث عن الحياة الفاضلة في الرّب، يتعرض للجانبين السلبي والإيجابي، فلا تمتع للتقديس بدُون التفريغ عن النجاسة، ولا يمكن أن يكُون لله موضع داخل القلب مع بقاء الشرّ فيه، لأنها عملية ديناميكية خلالها ينعم الإنسان بلذة الحياة مع الله ورفض لذة الخطية، يقبل الفكر الإلهي مُتخلياً عن الأفكار الشيطانية، فالفضيلة تنقسم إلى أمرين:

أولاً: ترك الشرّ..            ثانياً: صنع الخير..
فالتخلي عن الشرّ لا يكفي لبلُوغ الفضيلة، إنما يحسب هذا مُجرد بداية تقُود إلى ما بعدها، وهُنا يتحدث عن الجانب السلبي، وهُو التخلي عن كُل شرّ خاصة الزنا بكُل أبعاده، أي بالفكر والنظر والعمل، مُقدماً مفهُوماً حياً لتركه، ويمكن توضيح ذلك في النقاط الآتية:

أولاً: يعتبر الزنا من أبشع الخطايا، ويتحدث الرسُول عن الجانب الإيجابي أي اقتناء القداسة، فالأممي لا يقدر أن يترك هوى الشهوة لأنه لا يعرف اقتناء الله والاتحاد معه، وإن عرفه إنما خلال معرفة الفكر النظري والفلسفة الذهنية، لذا يبقى في فراغه لا يقدر أن يتخلى عن الشهوات والملذات، أما المُؤمن الحقيقي فيستطيع الامتناع عن الزنا ولا يشعر بحرمان، بل بفيض إلهي ينبع داخله يرُويه ويفيض، وخلال الاتحاد مع الله في ابنه القدُوس، مُتطلعاً إلى جسده كإناء مُقدس وآلة برّ الله..

ثانياً: يرى في الزنا تعدي على الإخوة، فالحُب في جُوهره بذل وعطاء وتكريم، أما الشهوة فأخذ واغتصاب وامتهان للغير، الحُب انفتاح القلب للعطاء بلا تمييز للجنس أو الشكل، يقدر فكره ومواهبه..

ثالثاً: الدعُوة للقداسة والامتناع عن الزنا دعُوة إلهية، لم يبخل الله علينا بشيء حتى وهبنا رُوحه القُدوس، في سرّ الميرُون ليعمل فينا مُقدساً إيانا، ومُهيئاً حياتنا للمملكة السماوية، فنُحسب ملُوكاً خلال اتحادنا مع الله في المسيح ملك الملُوك، وقديسين بثبُوتنا في قدُوس القديسين، لهذا كُل خطية نرتكبها تُهين الله الذي رفعنا إلى هذه الكرامة..

نهايتهُم الهلاك، يحزن الرسُول بُولس على هلاكهُم الأبدي..

إلههُم بطنهُم، أي يقيمُون من بطُونهُم آلهة يتعبدُون لها، فلا يعيشُون من أجل الأبدية، بل يشغلهُم شبعهُم ولذة الطعام، يفضلُون الشهوة على وصية الإنجيل، والمعتاد إن شيطان النهم يتبعه شيطان الزنا..

هل تحسب فضة هذا العالم وغناه خيراً عظيماً؟! إذاً المال هُو إلهك حيثُ قال عنه الرّب: لا يقدر أحدٌ أن يخدم سيدين، لا تقدرُون أن تعبدُوا الله والمال، راجع الكتاب (مت24:6؛ لو12:16)..

الإنسان الذي يُكثر الأكل ليس بعاقل، ولا يمكن أن يصير حكيماً، مهما كانت عبقريته، إنه كمن يدفن عقله في بطنه..

وكما أن العين عندما تكُون صافية، ترى الشمس دائماً بوضُوح، هكذا العقل النقي ينظر مجد نُور المسيح، ويكُون مع الرّب ليلاً ونهاراً، وهذا لا يتحقق إذا لم يُؤمن الإنسان ويحب الرّب بكُل قلبه، وفي هذه الحالة تستطيع قوة الرُوح أن تجمع القلب المشتّت، وتنقل الذهن إلى العالم الأبدي، وبذلك نقُول: فإن مواطنتنا هي في السماوات..

جسد تواضعنا، فالمسيحية لا تحتقر الجسد بل كرمته، وبعد تجسد كلمة الله نال الجسد كرامة ما بعدها كرامة، الجسد شريك الرُوح في رحلة الجهاد لذلك سيشاركها في المجد، لكن لماذا يدعُوه جسد تواضعنا؟!

لأن جسدنا يتعرض للضعف والمخاطر، والمرض والسقُوط..

ليكُون على صُورة مجده، سيتغير جسد تواضعنا ليصبح مثل جسد المسيح بعد القيامة الذي خرج من القبر وهُو مُغلق..

قالوا لأحد الفلاسفة: لقد صرت شيخاً مسناً فلتسترح من أتعابك..

أجاب: إن كُنت قد ركضت في الميدان كُل هذا الزمان، فهل أتلكأ في السير بعد أن اقتربت من النهاية، أما يليق بي أن أسرع إلى الأمام ؟!

أيها الأخ المحبُوب، إن سرت في الأرض، ووجدت أبُواب الناس مُغلقة في وجهك، فتذّكر: أن هُناك باباً مفتُوحاً في السماء..

إن ضاقت الدنيا أمامك، وأوصدت كُل السبل، إن دعُوت وليس من مُجيب، وبحثت وليس من صديق، اذكر هذه العبارة:
نظرت وإذا بابٌ مفتُوحٌ في السماء، إنها عبارة يقُولها: كُل إنسان في ضيقة، أو هي مُرسلة لكُل إنسان في شدة أو محنة..

أن كُل إنسان في العالم يجتاز ضيقاً ليس لأن الحياة مُؤلمة، لكن لأن قُلوبنا ضيقة، لا تحتمل متاعب الحياة، والحاجة لا إلى أن تزُول الضيقات، بل أن تتسع قلُوبنا بالالتقاء مع الله الحُب كُله، الذي يُعطي قلبك أتساعاً، فلتتهلّل نفسك حتى إن مرّرت بضيقة أو تجربة..

لسنا ننكر واقعية الحياة بآلامها، لكن الصلاة سند لك لتحول دمُوعك إلى تعزيات سماوية، وتقُول: عند كثرة همُومي في داخلي تعزياتك تُلذّذ نفسي، فعظمة الإنسان ليست في مركزه، ولا في شعبيته، وإنما باهتمامه بكُل أحد ليجعل منه صديقاً شخصياً له، فالقلب الكبير لا يرتبط برتبة كنسية ولا بكبر السن، وإنما باتساعه ليقبل الله فيه فكُونُوا أنتُم أيضاً مُتسعين، لأنكُم تعرفُون نعمة رّبنا يسُوع المسيح، أنه من أجلكُم افتقر وهُو غني، لكي تستغنُوا أنتُم بفقره، (2كو13:6؛ 9:8)..