د. ماجد عزت إسرائيل
هذا المقال أكتبه كإهداء إلى إحدى الشخصيات المثقفة التي دار بيني وبينها نقاش حول قضية الطبقية في يومنا هذا، وكيف يمكن أن تتسلل حتى إلى الكنيسة. وقد تذكّرت في هذا السياق ما جاء في مثل الابن الضال، حين كلّفني نيافة الأنبا بإلقاء عظة الإنجيل في ذلك اليوم المبارك، فتحدثت عن طوائف المجتمع داخل فلسطين آنذاك، وعن طبيعة التقسيمات الاجتماعية السائدة، وكيف واجهها السيد المسيح بأمثال بسيطة قريبة من الحياة اليومية، وبمَوْرُوثَات تراثية مستقاة من واقع المجتمع.وكذلك ألقيت كلمة في مناسبة أخرى عن المرأة السامرية وقصة البئر، وكيف كان وضع السامريين في المجتمع اليهودي، وكيف أن السيد المسيح بحديثه معها ألغى الحواجز الطبقية والدينية، وحاول أن يحقق التوافق بين المختلفين. وهو ما يتوافق مع إيماننا المسيحي الذي نردده في قانون إيماننا: "كنيسة واحدة". ومن هذا المنطلق أستحضر أيضًا رؤية الشهيد الأنبا أبيفانيوس، رئيس دير أنبا مقار، الذي شدّد على أن يكون القداس قداسًا واحدًا يحضره جميع الرهبان معًا، حتى لا تنشأ انقسامات أو تمايزات بينهم. فمن هنا تأتي أهمية هذا المقال، الذي يربط بين الواقع البشري وما يحمله من تقسيمات وطبقات، وبين رؤية الكتاب المقدس التي تعلن مساواة الجميع في المسيح.
ولكي نفهم أبعاد هذه القضية بعمق، من الضروري أن نبدأ بتحديد معنى الطبقيّة، باعتبارها المفهوم الذي ظل حاضرًا في المجتمعات القديمة والحديثة على السواء. فالطبقيّة هي تنظيم اجتماعي يقوم على تقسيم الناس إلى طبقات أو فئات على أساس مادي أو اجتماعي أو ثقافي، كالسلطة أو الثروة أو المهنة أو النسب. وهي تقوم على وجود تمايزات وامتيازات واضحة تؤثر في التفاعلات الاجتماعية والهياكل الاقتصادية والسياسية، وتنعكس على فرص الأفراد في التعليم والعمل والمكانة. وفي الفكر الماركسي تُعزى نشأة المجتمعات الطبقية إلى ملكية وسائل الإنتاج، الأمر الذي يفرز صراعًا دائمًا بين الطبقات. ومن ثم فإن الطبقيّة تُنتج فجوات اجتماعية واقتصادية، وتُكرّس التمييز وعدم المساواة، وتنتهي غالبًا إلى تناحر وصراع بين الفئات المختلفة. وعلى النقيض من ذلك، تمثل اللاطبقيّة نزعة أو مذهبًا اجتماعيًا يرفض الفوارق المصطنعة بين البشر ويسعى إلى إزالة الامتيازات القائمة على الثروة أو السلطة أو النسب، متجاوزًا العصبية العشائرية أو الفئوية. وهي تقوم على فكرة المساواة الكاملة بين الأفراد، وترتبط في كثير من الأحيان بالدعوة إلى الاشتراكية ومفاهيم العدالة الاجتماعية. وتتمثل آثار اللاطبقيّة في تعزيز التكافؤ بين الناس، والحد من مظاهر التمييز الاجتماعي والاقتصادي، وبناء مجتمع أكثر تماسكًا وتضامنًا، حيث تتحقق العدالة بوصفها أساس الاستقرار الإنساني والاجتماعي.
على أية حال، الطبقيّة، بما هي تقسيم للناس إلى مراتب بحسب المال أو النسب أو الجنس أو العِرق، قديمة قِدم المجتمعات الإنسانية، لكنها مرفوضة في ضوء تعاليم الكتاب المقدس. فبينما تكرّس المجتمعات البشرية هذا التمييز، يقدّم الكتاب المقدس رؤية بديلة أساسها المساواة في المسيح، حيث تزول الحواجز ويصبح الجميع واحدًا في جسده. ومن هنا يمكن أن نتوقف عند بعض النماذج التي تكشف موقف الوحي الإلهي من الطبقيّة: في العهد القديم نرى كيف تعامل الله مع إسرائيل كأمة مختارة بالنعمة لا بالاستحقاق، وفي العهد الجديد نلمس بوضوح كيف حطّم المسيح الحواجز بين اليهود والسامريين، وكيف شدّد الرسل على أن لا فرق بين يهودي وأممي، غني وفقير، رجل وامرأة.
ففي العهد القديم، كان اختيارُ الله لشعبِ إسرائيل قائمًا على نعمته لا على استحقاقٍ بشري: «وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ، مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِي» (تك 22: 18)، و«لَيْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ، الْتَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ… بَلْ مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ» (تث 7: 7–8). وهكذا يوضّح الكتاب أن قيمة الإنسان لا تُقاس بالنَّسَب أو القوّة، بل بمحبة الله. كما يقول المزمور: «الصِّدِّيقُ يَكُونُ لِذِكْرٍ أَبَدِيٍّ» (مزمور 112: 6). الخلاصة إن العهد القديم يظهر أن اختيار الله لشعبه لم يكن مبنيًّا على مكانةٍ أو استحقاقٍ بشري، بل على محبته ونعمته؛ فالقيمة الحقيقية للإنسان لا تقوم على النَّسَب أو القوّة، بل على رضى الله.
في العهد الجديد نرى بوضوح الطبقية بين اليهود والسامريين، إذ كان السامريون يُعتبرون "طبقة أدنى" بسبب اختلافهم العِرقي والديني. وقد عبّرت المرأة السامرية عن هذا الخلاف بقولها: «آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ» (يوحنا 4: 20). فجاء ردّ يسوع كاشفًا لمقصده: "قَالَ لَهَا يَسُوعُ: « تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ." (يو 4: 21)، مؤكّدًا أن العبادة الحقيقية ليست في المكان بل في الروح والحق.
وهكذا حطّم المسيح الحاجز الطبقي والديني، وفتح باب العبادة لكل إنسان.وحتى أن اليهود كانوا يتجنبون التعامل مع السامريين"فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ." (يو 4: 9). لكن يسوع كسر هذا الحاجز عندما مرّ بالسامرة وتحدث مع المرأة السامرية حيث قال لها:"أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا»." (يو 4: 10). فالخلاصة هنا المرتبطة بالطبقيّة في لقاء يسوع مع المرأة السامرية عند البئر يكشف أنه كسر حاجزين معًا: حاجز الطبقيّة الدينية والعرقية بين اليهود والسامريين، وحاجز الطبقيّة الأخلاقية والاجتماعية المرتبط بماضيها الشخصي. فقدّم لها ماء الحياة بلا تمييز، معلنًا أن محبة الله تتخطى كل الفوارق التي يصنعها البشر. ( راجع: يو 4: 11-19).
بل جعل السامري مثالًا للرحمة في مثل السامري الصالح (لوقا 10:25–37). هنا يعلّم المسيح أن المحبة تشمل الجميع بلا استثناء. فالوصية العظمى التي أعلنها المسيح هي: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ» (لوقا 10:27). وأيضًا موقف السامري: «وَلَكِنْ سَامِرِيٌّ مُسَافِرٌ جَاءَ إِلَيْهِ، وَلَمَّا رَآهُ تَحَنَّنَ. فَتَقَدَّمَ وَضَمَّدَ جِرَاحَاتِهِ، وَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا وَخَمْرًا» (لوقا 10:33–34). والدروس المستفادة من المثل في الخدمة والتعليم: «فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: اِذْهَبْ أَنْتَ أَيْضًا وَاصْنَعْ هكَذَا» (لوقا 10:37). الخلاصة: بهذا المثل كسر السيد المسيح الحاجز الطبقي والديني بين اليهود والسامريين، وأعلن أن المحبة الحقيقية لا تعترف بالفوارق الاجتماعية أو العرقية، بل ترى في كل إنسان قريبًا يستحق الرحمة.
وهكذا، يكشف العهد الجديد في أكثر من موضع كيف حطّم السيد المسيح الحواجز الطبقية والدينية التي أقامها الناس: مرةً في حواره مع المرأة السامرية عند البئر، ومرةً في جعله السامري مثالًا للرحمة في المثل الشهير. وقد التقط الرسول بولس هذه الحقيقة وأكّدها في تعليمه للكنائس، قائلاً: «لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. » (غل 3: 28). فهنا يتضح أن الكتاب المقدس لا يكتفي بكسر الطبقيّة في موقف معيّن، بل يؤسس لمبدأ لاهوتي ثابت: أن جميع المؤمنين متساوون في المسيح بلا تمييز.
وبل واجه بطرس عندما سقط في فخ التمييز بين المؤمنين من اليهود والأمم« وَلكِنْ لَمَّا أَتَى بُطْرُسُ إِلَى أَنْطَاكِيَةَ قَاوَمْتُهُ مُواجَهَةً، لأَنَّهُ كَانَ مَلُومًا. لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ. وَرَاءَى مَعَهُ بَاقِي الْيَهُودِ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّ بَرْنَابَا أَيْضًا انْقَادَ إِلَى رِيَائِهِمْ! » (غلاطية 11:2–13). وأوضح أن خلاصنا قائم على النعمة وحدها، لا على أعمال أو استحقاق، كما يقول: «الَّذِي خَلَّصَنَا وَدَعَانَا دَعْوَةً مُقَدَّسَةً، لاَ بِمُقْتَضَى أَعْمَالِنَا، بَلْ بِمُقْتَضَى الْقَصْدِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَبْلَ الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ،» (2 تي 1: 9). وأيضًا:«لاَ بِأَعْمَال فِي بِرٍّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (تي 3: 5) . ولذلك قال: «وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ. » (غل 6: 14). وكذلك علّم بولس أن جميع المؤمنين متساوون في جسد المسيح إذ يقول: «لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ، يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ، عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا، وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا... وأما أنتم فجسد المسيح، وأعضاؤه أفرادا. » (1 كو 12: 13 ، 27). وأما يعقوب فقد حذّر من المحاباة الطبقية داخل الكنيسة، قائلاً: «يَا إِخْوَتِي، لاَ يَكُنْ لَكُمْ إِيمَانُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، رَبِّ الْمَجْدِ، فِي الْمُحَابَاةِ.... فَهَلْ لاَ تَرْتَابُونَ فِي أَنْفُسِكُمْ، وَتَصِيرُونَ قُضَاةَ أَفْكَارٍ شِرِّيرَةٍ؟» (يع 2: 1،4).
والحقيقة التاريخية أن الطبقية في يومنا هذا تأخذ أشكالًا متعددة: طبقية اجتماعية بين الغني والفقير، أو تمييز عنصري بين عِرق وآخر، بل وقد تتسلّل حتى إلى الكنيسة في صورة تفرقة بين خادم ومخدوم، أو تفضيل في مواقع الجلوس، أو في الأغابي، أو حتى في توزيع الكاهن للبركة من قربان الحمل. ولكن رسالة الكتاب المقدس واضحة، إذ أعلن السيد المسيح أن كل الحواجز قد أُبطلت. فالكنيسة الحقيقية هي المكان الذي يلتقي فيه الجميع على قدم المساواة عند الصليب، حيث لا تفاضل بين إنسان وآخر.وعليه، فإن المؤمن مدعو أن يقاوم أي فكر أو سلوك يعيد تقسيم الناس إلى طبقات، وأن يعيش ثقافة المحبة والاحترام المتبادل. وبذلك فقط يكون جسد المسيح واحدًا، وتكون الكنيسة شهادة حيّة أمام العالم على قوة الإنجيل.وكما قال الرب يسوع نفسه: «بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ»." (يو 13: 35).
وهكذا يتضح أن رسالة الكتاب المقدس ترفض كل أشكال الطبقيّة، سواء كانت اجتماعية أو عرقية أو حتى كنسية. ففي المسيح تزول الحواجز، ويصير الجميع واحدًا عند الصليب، متحدين بالمحبة التي تعكس صورة جسده الواحد. وهذه هي الشهادة الحيّة التي يقدّمها المؤمنون للعالم: أن الكنيسة لا تُبنى على الامتيازات أو المراتب، بل على المحبة التي تجمع الكل في المسيح يسوع.