ماهر عزيز بدروس

الجزء الثالث – القضايا المتقاطعة والمشتبكة (1)
Cross-cutting Issues


1- النماذج اللغوية الكبيرة
Large Linguistic Models (LLMs)

لقد أثارت النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) خيال الجمهور من خلال المخرجات التي تشبه اللغة البشرية في منتجات شائعة مثل ChatGPT، وتساهم هذه النماذج بالفعل في التخفيف من آثار تغير المناخ، حيث تساعد النماذج اللغوية الكبيرة في فهم الكم الهائل من معلومات تغير المناخ الواردة من مصادر متعددة وبالعديد من اللغات، كما تساعد فى تحديد المشاعر، وبنية الحُجج فى المناقشات المتعلقة بتغير المناخ، وتلخيص المخاطر والآثار المناخية الموصوفة في الكم المتزايد من الأبحاث المناخية.

وفي المستقبل، يمكن للنماذج اللغوية الكبيرة أن تؤدي دورًا أكبر في مكافحة تغير المنا،. حيث يمكنها أن تعمل كمرشد في التعليم المناخي، وأن تُصور العواقب المناخية بشكل شخصي، وتقترح إجراءات فردية للتصدي لتغير المناخ، ويمكنها كذلك أن تُعزز العلوم الأساسية في مجال التخفيف من تغير المناخ، بدءًا من اكتشاف المواد لتحسين البطاريات واقتناص الكربون، ووصولًا إلى الإدارة المتقدمة لشبكات الطاقة. ويمكنها أيضاً المساعدة في تجاوز التعقيدات الحالية لإجراءات التصاريح التي تُبطئ من تنفيذ مشروعات الطاقة الخالية من الكربون.

ومن العوائق التي تحول دون استخدام النماذج اللغوية الكبيرة في التخفيف من تغير المناخ مسألة الثقة في هذه "الصناديق السوداء"، التي قد "تهلوس" وتنتج معلومات غير صحيحة، وتشمل العوائق: التحيز، والتهديدات الأمنية، وسوء الاستخدام، وابتعاثات غازات الدفيئة الناتجة عن تشغيل هذه النماذج نفسها.

ويجب على الحكومات الوطنية، ومطوري النماذج اللغوية الكبيرة، وأصحاب المصلحة الآخرين أن يطوروا ويشاركوا نماذج مدربة على بيانات مناخية، مع وضع معايير مرجعية وبرامج تدريبية لضمان استخدامها بفعالية في مواجهة تغير المناخ، كما ينبغي زيادة جهود البحث والتطوير، وتعزيز الشفافية في تتبع البصمة الكربونية للنماذج اللغوية الكبيرة، والعمل على تطوير تطبيقاتها في مكافحة تغير المناخ.

2- رصد ابتعاثات غازات الدفيئة (GHGs) Green House Gases
تُعد المعلومات الدقيقة حول ابتعاثات غازات الدفيئة ضرورية لمواجهة تغير المناخ.

تاريخيًا، كانت بيانات غازات الدفيئة مجزأة وأحيانًا غير مكتملة، مع وجود تأخيرات زمنية كبيرة، مما حدّ من القدرة على تصميم استراتيجيات فعّالة للتخفيف.

ويؤدى الذكاء الاصطناعي الآن دورًا حاسمًا في التغلب على هذا القيد من خلال تحليل كميات هائلة من البيانات القادمة من الأقمار الصناعية والتكنولوجيات الأخرى، لتوفير رصد أكثر شمولًا وفي الوقت شبه الحقيقي للابتعاثات.

وتُعد مساهمات الذكاء الاصطناعي بارزة بشكل خاص في رصد ابتعاثات الميثان، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد من خلال أدوات تعتمد على صور الأقمار الصناعية لاكتشاف أحداث الابتعاثات، وتحديد كميتها ونسبها إلى مصادرها، ولقد سمح هذا النهج بتحديد "الجهات فائقة الابتعاثات"، وتحديد التسربات المزمنة للميثان من صناعات مثل استخراج الوقود الأحفوري وإدارة المخلفات، التي كانت غير مُبلّغ عنها في السابق.

ويُحدث الذكاء الاصطناعي الآن ثورة في تتبّع ابتعاثات ثاني أكسيد الكربون من خلال دمج مجموعات بيانات ضخمة من قطاعات مختلفة، كالنقل والصناعة، لتوفير بيانات آنية، كما يُسهّل الذكاء الاصطناعي الشفافية في أسواق مقاصة الكربون وتجارته من خلال تمكين الرصد المفصل للمصارف الطبيعية للكربون، مثل الغابات، باستخدام صور الأقمار الصناعية.

ولمساعدة الذكاء الاصطناعي على تحقيق إمكاناته في إحداث ثورة في رصد الانبعاثات، ينبغي على الحكومات الوطنية تشجيع الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة المعنية بتغيّر المناخ United Nations Framework Convention on Climate Change (UNFCCC) على تحديث الإرشادات المتعلقة بإعداد القوائم الوطنية لجرد الابتعاثات، بحيث تُجيز صراحة استخدام البيانات المعزّزة بالذكاء الاصطناعي، وليس فقط التقييمات القائمة على عوامل الابتعاثات، كما ينبغي للحكومات الوطنية والهيئات الدولية المختصة مواصلة الجهود الجارية نحو توحيد بيانات الابتعاثات المعزّزة بالذكاء الاصطناعي، والنظر في إنشاء آليات رسمية لاعتماد البيانات ومزوّدي البيانات المعتمدين على الذكاء الاصطناعي.

3- الابتكار فى المواد
تُعد المواد المتقدمة ذات الخصائص الخاصة ضرورية لتحقيق إزالة الكربون، لأنها تشكّل أساسًا للعديد من التقنيات منخفضة الانبعاثات، ومن أمثلتها: المحفّزات، وأقطاب البطاريات، والخلايا الشمسية الفوتوفلطية، وشفرات توربينات الرياح، ومبرّدات نظم التدفئة والتهوية وتكييف الهواء (HVAC)، والموصلات الفائقة، وممتزّات احتجاز الكربون، والمغناطيسات فائقة القوة.

تاريخيًا، كان اكتشاف هذه المواد المتقدمة يتم إما بالصدفة أو من خلال تجارب مضنية ومكلفة قائمة على المحاولة والخطأ، ولكن قبل عدة عقود، أدّت التطورات في نظريات علوم المواد وزيادة القدرة الحاسوبية إلى الانتقال نحو نهج أكثر اعتمادًا على الحوسبة في اكتشاف المواد، وتتطلب الطرق المعيارية الحالية لاكتشاف المواد المتقدمة من خلال الحوسبة موارد ضخمة من الحوسبة، ولا تزال بطيئة لتلبية احتياجات الابتكار في المواد اللازمة لتحقيق إزالة الكربون بالكامل.

وفي الآونة الأخيرة، تطورت علوم المواد الحاسوبية باستخدام أساليب الذكاء الاصطناعي، وبدأت هذه الأساليب تُحدث تأثيرًا ملحوظًا؛ ففي بعض الحالات، يمكن لنماذج الذكاء الاصطناعي أن تحل محل الأساليب العلمية التقليدية تمامًا، مما يسرّع بشكل كبير من أوقات المعالجة، وفي حالات أخرى، يساعد الذكاء الاصطناعي في تفسير نتائج تجارب توصيف المواد بسرعة، مما يتيح اختبارًا عالي الإنتاجية للمواد المتقدمة المرشحة.

ومن أبرز التطورات الواعدة استخدام الذكاء الاصطناعي القائم على اللغة الطبيعية لتحليل الكم الهائل من الأدبيات التقنية في علوم المواد، وإنتاج مراجعات تقنية دقيقة وسريعة، إضافة إلى خطوات معالجة محددة بدقة لإنتاج المواد. وقد تمكنت أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي من اقتراح فئات جديدة كليًا من المواد المتقدمة التي لم تكن تُعتبر من قبل ذات صلة بإزالة الكربون.

ورغم أن هذه التطورات واعدة جدًا، إلا أن تحقيق الإمكانات الكاملة لهذه التكنولوجيا في التخفيف من تغيّر المناخ يتطلب تكاملًا أوثق بين علوم المواد وأبحاث الذكاء الاصطناعي.