ماجد سوس
منذ حوالي خمس سنوات ألقى نيافة الحَبْر الجليل الأنبا بافلي، أسقف عام كنائس قطاع المنتزه وشباب الاسكندرية وراعي مدرسة تيرانس للتعليم والوعظ، محاضرة قيّمة في المدرسة اللاهوتية عن سفر نشيد الأنشاد الذي كتبه سليمان الحكيم. وهو من أكثر أسفار العهد القديم هجوما من غير المسيحيين وغير الدارسين.
ولأن الأنبا بافلي رجل مفوّه وحكيم وأعطاه الله عمق كتابي روحي، فقد دافع عن السفر باحترافية بمحاضرات داخل معهد لاهوتي مسيحي لأبناءه الطلبة دون أية إهانة لديانة أو لأشخاص. فمن يعرف هذا الرجل يعرف محبته للوطن وحرصه الشديد على نشر روح الحب والتآخي في المجتمع.
كالعادة، أخذ المدعو معاذ عليان كلمات قصيرة جدا مستقطعة من العظة ليهين بها الأسقف الوقور وليظهره امام البعض أنه متطرف او أنه يهين أبناءه وإخوته المسلمين وهو الرجل الذي تربطه بهم علاقة مودة واحترام يعرفها جيدا الشعب السكندري. لذا كان لزاماً علىّ أن أطرح أمامكم ولضيق المساحة القليل من الكلمات الذهبية التي قدمها هذا الأسقف المحبوب في مقدمة السفر كذخيرة دراسية قيّمة نحتاجها بشدة في هذا الزمان الذي توجه فيه سهام العدو نحو كتابنا وكنيستنا. أقدم مقتطفات من محاضرة الأنبا بافلي بكل أمانة دون زيادة أو نقصان.
في المحاضرة المسجلة له، بدأ أبونا الأسقف كلمته قائلا: " لماذا اخترت سفر النشيد؟ لأنه السفر اللي بيتهاجم من سنين وإلى اليوم يهاجم؟ هذا السفر المهاجم من كثيرين؟ وبالذات في البلاد العربية، وأقول في جرأة مسيحية لا تجد هذا الهجوم في أي مكان، إلا في البلاد العربية، يهاجمون هذا السفر بسبب الخلفية اللي موجودة، خلفية الثقافة العربية اللي موجودة، أما السفر في باقي لغات العالم. فهو مقدر محترم."
نعم ما قاله الأسقف صحيح فبينما يُقرأ هذا السفر في الثقافات الأخرى باعتباره نصًا شعريًا ورمزيًا غنيًا بالمعاني الروحية والجمالية، ينظر إليه في الثقافة العربية بمنظار مختلف يتأثر بالمعايير الاجتماعية المتعلقة بالحياء والتعبير عن الحب. وهو هنا يقصد العرب بكل انتماءهم وأيديولوجياتهم، حتى الأرثوذكس اليهود لا يجعلون الأطفال والشباب يقرأونه.
يستكمل ابونا الأسقف سبب شرح هذا السفر قائلا حقيقة موجودة وقرأناها كثيرا على الميديا فيقول: "واليوم، عندما يريدون أن يعثروا أخت أو بنت في جامع أو كنيسة، ربما يتهمونها بهذا السفر انت عندك أو بتقري سفر النشيد. وأنا اليوم حابب أرد على بعض الاتهامات وأدخل في التأمل في جزء بسيط للغاية،"
وتعليقي على هذا، أن المتابع لما يجري في المجتمع يجد أن بناتنا وأولادنا يثارون بالفعل بهذا الأمر في مواقف كثيرة يتعرضون لها خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، فكيف لهذا الأب القدير ألا يحذر بناته ويشرح لهن كيف يدافعون عن كتابهم.
يكمل أبونا الأسقف قائلا: "السِفر بيتهاجم لأنه يتحدث؟ عن علاقة وحدة بواحد؟ وعلاقة واحدة بواحد في الثقافة العربية، ثالثهما الشيطان."
تعليقي على هذا، أنه في الحقيقة، لقد أصبح مع مرور الزمن هذا الحديث الإسلامي جزءًا من الثقافة العربية، يتجاوز الدائرة الدينية وأصبح يؤثر على الأعراف الاجتماعية والتصورات الشعبية عن العلاقة بين الرجل والمرأة سواء بين المسلمين أو المسيحيين وأصبح ترديده بعيدا كل البعد عن المساس بالإسلام ولا سيما أن الأنبا بافلي لا يتهكم على الحديث، بل يطرحه كعرف سائد ومستقر في المجتمعات العربية.
هنا يبدأ ابونا الأسقف بوضوح مدافعا عن السفر قائلا: " يتهمون هذا السفر أنه سفر جنسي، يتحدث عن الجنس. هذا السفر لا يتحدث عن الجنس. يتحدث عن علاقة حبية بين واحد وواحدة، وهنشوف الواحد والواحدة دول يطلعوا مين؟ هذا الاتهام. مش صحيح. ماتتخضش. محدش يتهمك بهذا السفر ويقول ده سفر جنسي قوله فين كلام الجنس؟ وأنا أريد أن أدخل إلى كلية الطب الآن ... سيتحدث الأستاذ الدكتور عن الأعضاء اللي في جسم الانسان، هل الدكتور يتحدث عن كلام جنسي؟ ماكناش ودينا اولادنا صح؟ لكن ولادنا بيروحوا يتعلموا، وفي قدسية شديدة في كلية الطب. الدكتور بيشرح جسم الإنسان."
ثم يؤكد: " يبقى هذا الاتهام باطل. هذا الاتهام لا يوجد لي أدلة، لكنه اتهام يُلقى على المسيحيين ويستقبلونه بنوع من التشكك وعدم الاستقرار" ثم يضع أبونا الأسقف يده على المشكلة وهي عدم المعرفة التي أصابت أولادنا في هذا الزمان وجعلهم عرضه للهجوم، فيقول عن السبب: “لأننا لا نقرأ. لأننا لا ندرس، لأننا نتعب في أمور كثيرة دون أن يكون لنا دراسة، واليوم أنا جاي عشان أدرّس لكم، مش جاي عشان أوعظ، الوعظ ليس مجاله اليوم. لكن طلبي اليوم، إنك تدرس فتستطيع أن ترد بردود منطقية. السفر، ليس سفر جنسي."
يطرح نيافته دفع آخر يبدأه بآية كتابية تؤكد أن الإنجيل يعلمنا أن كل شيء طاهر للطاهرين فيقول: "فأنا لا أخجل وأنا أسقف الكنيسة عندما تحدثت عن كلمة وردت في السفر وهي الثدي ... عندما تتحدث عن الطفل تقول الثدي الذي يرضع منه وعندما تتحدث مع طبيب يقول انا بعمل عمليات في الثدي .. ولكن عندما يسمعني منفلت ستذهب أذانه وأفكاره إلى أمور أخرى. ليس العيب في الكلمة، لكن العيب في المتلقي .. فكل شيء طاهر للطاهرين."
هذا قليل من كثير من الحجج القوية التي خرجت بالروح من فم هذا الأسقف جزيل الاحترام، على ستة حلقات وانا لم اخذ منها سوى المقدمة وادعوكم للإستماع لكل المحاضرات الثمينة. هذا السقف جزيل الإحترام الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال ان يزدري عقيدة أو أشخاص والمزايدة عليه في هذا ضرب من السفه. بل ان التساؤل الملح الان هو لماذا يترك معاذ عليان طليقا وهو يذدري المسيحية ليل نهار دون رادع.
في النهاية، يبقى صوت الأنبا بافلي شاهدًا للحق، لا ضد أحد، بل من أجل أن تظل عقول أبنائه نقية وقلوبهم مرفوعة لله. لم يزدري الإسلام يومًا، ولم يهاجم إيمان أحد، بل على العكس، في دفاعه عن سفر نشيد الأنشاد إنما دافع عن قدسية الحب ونقاوة الفكر، وأعلن أن كل شيء طاهر للطاهرين. لقد تكلم بروح المحبة التي تعانق الجميع، وبحكمة الأب الذي يعلّم أبناءه كيف يواجهون سهام الشك بالمعرفة واليقين. وهكذا يظل الأنبا بافلي رمزًا للرجل الذي حمل سلامًا في قلبه، واحترامًا في كلماته، ونورًا يبدد ظلمة الاتهامات الباطلة.