بقلم الأب يسطس الأورشليمى
النعمة: هذه الكلمة العذبة التي تحمل في طياتها أخباراً مُفرحة إلى قلوب الحزانى والمُتضايقين والمهمُومين، والمثقلين بالخطايا والذنُوب..

نجد أن رقم ثلاثة آلاف في الكتاب المُقدس يرتبط بحادثتين كبيرتين:  الأولى: حدثت في العهد القديم، وكان المُوت من نصيب ثلاثة آلاف شخص والثانية: حدثت في العهد الجديد، وكانت الحياة لنفس هذا العدد..

الحادثة الأولى: جرت عند جبل سيناء، حيثُ أعطى الله النامُوس من خلال مُوسى النبيّ، وتبع هذا مُوت ثلاثة آلاف شخص (خر28:32)..

والحادثة الثانية: كانت في أورشليم، حيثُ سكب الله برُوحه القُدوس على 120 شخصاً، في العلية يوم الخمسين، لتبدأ كرازتهُم بالبشارة، فينال ثلاثة آلاف شخص المعمُودية والإيمان بالمسيح (أع41:2)..

حقاً أنها إشارة بليغةإلى الفرق بين زمني العهد القديم، والعهد الجديد أي بين النامُوس والنعمة، فمع إعلان النامُوس ظهرت دينُونة الله العادلة على الخطاة بالمُوت، ومع بشارة النعمة ظهر خلاص الله للخطاة بالحياة  لأن النامُوس بمُوسى أعطي، أما النعمة والحقّ بيسُوع المسيح صارا..

فالنعمة تحمل وتُعلن لهُم أن الله يحبهُم بلا حدُود حتى المنتهى، برغم عدم استحقاقهُم، فالله يغفر الذنُوب ويفرح الحزانى ويُزيل الهمُوم، ويُحول اللعنة إلى بركة، ويُنقذ من المُوت، ويقُودنا من مجد إلى مجد..

مُتبرّرين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسُوع المسيح، الذي قدمه الله كفّارةً بالإيمان بدمه، فالنعمة تُبرّر الفاجر وتُخلصه من العبُودية..

في إنجيل القديس لوقا، تبرز النعمة في حنان الرّب العجيب، المُتجهة للتعابى والمحرومين، للضعفاء والمساكين، ومُنكسري القلوب الذين يبحثون عن الراحة ولا يجدُونها، والقديسين بولس ولوقا هما أكثر اثنين استخدماهما الوحي الإلهي للحديث المستفيض عن النعمة الغنية، فلقد كانا رفيقي سفر ورحيل من بلد إلى آخر، ينشران الأخبار السارة المُفرحة..

وفي إنجيل لوقا البشير أربع قصص عظيمة تُظهر وتشرح لنا النعمة وتُقدم صورة متكاملة عن النعمة العظيمة المُربية..
القصة الأولى: عن الفريسي والمرأة الخاطئة (لو36:7-50)..
القصة الثانية: وهي مثل السامري الصالح (لو25:10-37)..
القصة الثالثة: وهي قصة الابن الضال (لو11:15-32)..
القصة الرابعة: وهي اللص اليمين (لو40:23-43)..

ففي القصة الأولى: الرب لا يرفضك مهما كانت حالتك، فهو يُرحب بالمرأة الخاطئة، ويتركها تقترب منه وتُقبل قدميه، ويغمرها بحبه ويغفر لها خطاياها، ويقودها لحياة جديدة مختلفة، تأمل ما قاله الرب لسمعان: إذ لم يكن لهما ما يُوفيان سامحهُما جميعاً، وهذه هي حالة أي إنسان لم يتمتع بعد بالغفران، مهما تهذبت طباعه وأخلاقياته ومبادئه، فهو لا يمتلك ما يُسددّ به ديون خطاياه، لأن أجرة الخطية هي مُوت (رو23:6)..

لقد خلّصها من الإحساس المُدمر بالذنب، وأراحها تماماً وغمرها بالحب الذي يشفي الأعماق، فعادت مختلفة بعد أن قال لها: اذهبي بسلام، لذلك لم يكن في مقدورها إلاّ أن نحبه كثيراً، ودخلت دائرة الحُب..

وفي القصة الثانية: السامري الصالح، ويحكي لنا عن شخص سافر في الطريق الخاطيء، حيثُ ترك أورشليم المدينة التي ترمز للسماء، ونزل في الطريق إلى أريحا التي ترمز إلى عالم الإثم (يش26:6؛ عب22:12)، فماذا حدث له؟ وقع بين لصوص، فعرُوه وجرحُوه ومضُوا وتركُوه بين حي وميت، وهذه هي النتيجة لكُل شخص يترك الرّب ويتجه إلى الإثم، سيأتي اللصوص، أي قُوى الظلمة ويسلبُون منه السلام والراحة والبركة، ويتركُونه يُعاني بين الحياة والمُوت، وقد رآه اثنان كاهن ولاوي، لكنهما تجاهلاه تماماً وأتى ثالث وكان سامرياً وجاء إليه، ولما رآه تحنن وتقدم وضمد جراحاته وصب عليها زيتاً وخمراً، وأركبه على دابته وأتي به إلى الفندق واعتنى به وأخرج دينارين وأعطياهما لصاحب الفندق وقال له اعتن به..

والرّب لن يتجاهلك إذا ما رآك منكسراً بسبب الخطية، لأن قلبه مملوء بالحنان، يأتي إليك ويتحنن عليك، فجرُوحك تُحرك قلبه في حُب بالغ، يتقدم نحوك ليُضمد جرُوحك، ويصب عليها زيت رُوحه الشافي وخمر محبته، حقاً أنها النعمة المنتصرة، ويُسلمك إلى الرُوح القُدس صاحب الفندق ليعتني بك بأسفار العهدين القديم والجديد التي تُغذيك وتُشبعك (عب12:4)..

وفي القصة الثالثة: قصة الابن الضال، التي تفيض بالنعمة، فالآب يجري ليُعانق ابنه العائد مُتناسياً كل ما صنع، لقد تنكر الابن له وازدرى به وبذر أمواله في طريق الإثم، وجعله عُرضة لسخرية الشامتين والحاقدين لكنها النعمة الغنية المُربية التي تعطي غير المُستحقين، أنه حُب الآب السماوي لنا، أي ترحيب يُقابلك به حينما تعُود إليه، فينسى كُل ما فعلته ولا يعود يرى خطاياك ولا يعاقبك، والأب لا يكتفي بالصفح والترحاب الحار بابنه، بل يأمر عبيده فيقُول لهُم: أخرجُوا الحُلّة الأولى وألبسُوه، واجعلوا خاتماً في يده، وحذاءً في رجليه، وقدّمُوا العجل المُسمّن واذبحُوه فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجد..

الأب يأكل ويشبع ويفرح بسبب عُودة ابنه، اخرجُوا الحُلّة وألبسُوه، فهُو يُريد أن يرى ابنه جميلاً رائعاً حسن الصُورة، وهذا ما تفعله النعمة حيثُ تُلبسنا الرّب يسُوع، فهو ثياب الخلاص ورداء البرّ، الآب يرانا في جمال ابنه يسُوع، الذي يحجب كُل نقائصنا وعيُوبنا، فيفرح بنا..

وفي القصة الرابعة: وهنا ترتقي بنا النعمة إلى قممها العالية، فهي لا تراها تُقدم إلى شخص عرّوه اللصوص وتركُوه بين حيّ وميت كما في القصة الثانية، بل إلى لص من هُؤلاء اللصوص، لقد طرح إثمه في أعماق البحر، بعد أن اعترف بأنه مُجرم ويستحق المُوت صلباً، وكان أقصى ما يطمع فيه أن يذكره الرّب عندما يأتي في ملكُوته، لكن أنظر إلى استجابة النعمة الغنية، قال له: اليوم تكُون معي في الفردُوس، اليوم سوف تقفز من محنة الصلب وظلمة الهاوية إلى المجد حيثُ الفردُوس..

حقاً إنها النعمة التي تُقيم المسكين من التُراب والبائس من المزبلة لتُملكه كرسي المجد، أنظر(2صم8:2؛ مز7:113)، هذه النعمة التي تجعلك دائماً في شركة وعشرة مع الرّب يسُوع المسيح وتتمتع بالمجد.. 

ونلاحظ الآتي: في القصة الأولى رأينا النعمة الغافرة التي تغفر الخطايا والذنُوب، وفي الثانية النعمة التي تعتني بك كُل الاعتناء، وفي الثالثة النعمة المُربية التي تجعلك تُفرح قلب الآب، وفي الرابعة النعمة الغنية التي ترفعك لتكُون في معية الرّب يسُوع كُل الوقت وتسير معه من مجد إلى مجد..

كلمة: نعمة، ترد أكثر من مائة وخمسين مرة في العهد الجديد، ومائة  منهم في رسائل بُولس، فلماذا يُسلط الوحي الإلهي ضوءً عليها؟!

لأن النعمة هي السمة البارزة التي تُميز العهد الجديد، ألاَ تتعجب أن متى العشار يُدون أحد الأناجيل الأربعة، وكان العشارُون يعتبرُون من أحط وأرذل الخطاة، والتحُول الجذري الذي جرى لمريم المجدلية، من امرأة يسكنها سبعة شياطين، إلى كارزة ومبشرة المبشرين بقيامة رّب المجد من الأمُوات، واللص اليمين الذي صُلب بجوار الرّب، وكان يستحق المُوت وفي الدقائق الأخيرة من حياته، ينتشله من الغرق في بحر الهلاك الأبدي وينقله في ذات اليوم إلى الفردُوس (لو2:8؛ 41:23؛ يو17:20)..

أنها النعمة الغنية، فالله لا يتعامل بالنعمة بل بفيض النعمة، وفي هذا اليوم العجيب ستندهش وتتعجب الخليقة، إذ ترى بكُل وضُوح هذه القفزة الهائلة التي أحدثتها لنا النعمة، من المزبلة إلى تملك كراسي المجد، ومن عبيد مُذلين من إبليس، إلى أبناء الله الذين أعطاهم السلطان أن يطردُوا  الشياطين، ومن مُقضي عليهم بالمُوت، إلى وارثين لله مع المسيح، الميراث الذي لا يفنى، ولا يتدنس، ولا يضمحل، ومن فجار خطاة إلى قديسين أبناء النُور، لأنه إن كان بخطية الواحد قد ملك الموت بالواحد، فبالأولى كثيراً الذين ينالُون فيض النعمة وعطية البرّ، سيملكُون في الحياة بيسُوع المسيح..    راجع الكتاب المُقدس (رو17:5؛ 17:8؛ 1بط4:1).