نسيم مجلى
 
1- الأدب في سبيل الحياة. 
2- المكارسية والأدب. 
 
 1- الإدب في سبيل الحياة
 في سنة1953 قررت الثورة أن تؤسس لنفسها جريدة باسم "الجمهورية" لكي تعتمد عليها في نشر مبادئها ولا تعتمد على الصحف القائمة التي يسيطر عليها رجال العهد البائد. وأسندت رئاسة تحرير هذه الجريدة للأستاذ حسين فهمي، الذي اتصل بالدكتور لويس عوض - دون سابق معرفة - وأقنعه بالإشراف على الصفحة الأدبية.
 
وبدأ العمل التحضيري خلال شهري أكتوبر ونوفمبر حتى صدرت الجمهورية في يوم الاثنين 7 ديسمبر 1953م. ورفع لويس عوض شعار "الأدب في سبيل الحياة" بمثابة برنامج عمل. وفي شهر واحد، فجر لويس عوض أكثر من معركة "فجر معركة الأدب للأدب" مع طه حسين والعقاد، و"الأدب للحياة" ثم الأدب للمجتمع: من جانب محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس.
 
 كذلك فجر لويس عوض معركة أخرى حول حكم الشعب وحكم النخبة مع الدكتورة سهير القلماوي حين كتب عن "الشرارة الأول" حول حكومة الأصفياء.. وقد توالت مقالاته حول هذا الموضوع بحرارة وعنف عبرت عن مخاوفه الشديدة من الانتهازية الطبقية والنزوات الديكتاتورية التي كانت تطل من سطور بعض المقالات.
 
 وكان آخر مقال في هذه المعركة عنونه "الشعب.. ثم الشعب.. ثم الشعب" في 12 مارس سنة 1954.. فكانت هذه المعركة بمثابة المقدمة الصحيحة لمقالاته الأربع عن "دستور الشعب" التي نشرها أبان أزمة مارس 1954 وانتهى فيها إلى مطالبة قادة الثورة بأن يخلعوا الكاكي، وينزلوا إلى الشارع لا بوصفهم قادة عسكريين ولكن بوصفهم زعماء شعبيين. 
 
فإذا نظرنا إلى كل هذا في سياقه الزمني الصحيح، جاز لنا أن نقول: إن لويس عوض أشعل ثورة الأدب الجديد التي امتدت إشعاعاتها في عدة اتجاهات، فشملت قضايا الحرية جميعا: حرية الوطن وحرية المواطن من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. كما نرى في الصفحات التالية. 
وصدر العدد الأول من جريدة الجمهورية يوم الاثنين 7 ديسمبر 1953 وتحت شعار "الأدب في سبيل الحياة" كتب لويس عوض مقاله الأول في شكل بيان ثوري بعنوان "هذه الصفحة! "ينعي فيها نهاية الأدب القديم وبداية الأدب الجديد بقوله: 
 
"انتهى الأدب الأناني.. انتهى الأدب الذي يعبد نفسه ويزعم للناس أنه يعبد فنه. وإذا لم يكن قد انتهى، فسوف نعمل على إنهائه. فنحن على أعتاب عصر جديد ونحن نكتب الأدب في سبيل الحياة الجديدة.  نعم الحياة الجديدة، فلقد ورد في الأساطير أن العنقاء تحرق نفسها كل مائة عام كلما أدركتها الشيخوخة؛ لتخرج من رمادها العنقاء الجديدة. ومصر هي العنقاء الجديدة. والعنقاء لا تموت؛ لهذا نكتب الأدب في سبيل الحياة الجديدة. ومن يكتب الأدب في سبيل الحياة الجديدة فهو ملتزم". لكن بماذا يلتزم؟
 
 ثم يجيب: 
 "نحن نلتزم بالواقع وبالخيال. وبالجديد وبالقديم.. بكل هذا بأكثر منه نحن نلتزم بالحياة؛ ففي الحياة يتداخل الواقع والخيال والجديد والقديم. في الحياة الناضجة المكتملة يتداخل ألف شريان وشريان".
 
 ومن هذه العبارات نعرف أن دعوة لويس عوض لا تضع قيدا ولا تفرض شكلا أو نمطًا، وإنما هي دعوة مفتوحة للإبداع الحر.. وهذا ما يؤكده بعد ذلك حين يقول: 
 
"نحن واقعيون نحن رومانتيكيون. نحن مجددون. نحن كلاسيكيون. فمن يعيشُ في الواقع بلا مثال يملأ قلبه بالاحترام ليس إنسانا، بل دودة من دني الدود. ومن يعتبر الخيال بعيدًا عن الواقع مخبول يمشي على فرش من سحاب. ومن ليس له قديم ليس له جديد. ومن عبد الماضي وحده فهو جيفة يمشي بين الأنام"…ثم يشدد على قيمة الحرية والالتزام بها:
 
"نلتزم بالحرية فهي للأدب الحي بمثابة الشمس والهواء. وهذه الحرية هي الرئة التي سيتنفس بها الكتاب الأحرار". ثم يوضح أن الحرية نقيض الفوضى فبقول:
 
  "وليس الحرية عندنا هي أن نقول ما نقول، أو نعتقد ما نعتقد، وإنما الحرية عندنا أن تكون وفيا لذات الحق كما تراه بعد طول دراسة أو طول تأمل، ولكننا نمقُت الفوضى، وعندنا أن الفوضوي إما مخرب أو أجير".
 
ويزداد معنى الالتزام وضوحًا حين يقول: 
نلتزم بالمبادئ الإنسانية العليا أنَّى كان مصدرها: من الشرق أو من الغرب. فنعرض عليك ألوانا من الفكر وألوانا من الفن جاءت من كل بقاع الأرض، ومن كل حقبة من الزمن. وفوق هذا نلتزم بمصر".
 
هذا هو البيان الأول الذي أشعل به لويس عوض معاركه الثورية في ميدان الأدب. وإن شئنا تحديدًا لمضمون هذا البيان، فنقول إنه دعوة تهيب بكل أديب لكي يمارس تجربة الإبداع الحر دون خوف من حاكم أو رقيب. فلا رقيب عليه إلا ضميره الذي يلتزم بالحق كما يراه، ويدافع عنه بشجاعة حتى تتأكد الحرية.. للفرد وللوطن. والالتزام بمصر الوطن بحريتها واستقلالها لا يجادل فيها أحد ولا يقيد حق أحد خصوصا وأنه ليس دعوة شوفونية ضيقة، وإنما دعوة رحبة مفتوحة على آفاق الفكر شرقا وغربا؛ انطلاقًا من الإيمان بالمبادئ الإنسانية العليا أنَّى كان مصدرها.
 
 دور الكاتب الحر: 
وفي اليوم التالي كتب لويس عوض مقالا دفاعا عن كتاب مصر الأحرار بدأه بقوله "الكاتب المصري.. أقدم الثوار" 
  تحية "الجمهورية إلى كتاب مصر، تسوقها إليهم وهي في مستهلها، فلقد عودنا كتاب الاستعمار أن يحطوا من شأن الكاتب المصري، فينفوا عنه شجاعة الرأي ويصفوه بالنفاق وممالأة السلطان. وما هذه الحملة بقاصرة على الأديب المصري أو المفكر المصري، فهي جزء من حملة أكبر مدى وأبعد هدفًا، حملة ترمي إلى وصم الشعب المصري بأجمعه بأنه شعب ذليل سهل القياد".
 
وردًّا على هذه الحملة يقول "أن الشعب المصري شعب حر.. سليم في جوهره.. وأن الأديب المصري أديب حر سليم في جوهره" منذ أقدم العصور      ويدلل على ذلك بقصة الكاتب اللمصرى "أبو وير" الذي يسميه لويس عوض "أبو الكتاب الأحرار".
 
وقد ورد ذكره في بردية لايدن التي نشرها جاردنر في لايبزج عام 1909 تحت عنوان "حكيم مصري يؤنب" وفي هذا النص يقوم "أبو وير" بتأنيب ملك مصر قائلا: 
 
 "الحرب دائرة في البلاد. النهر ماؤه دماء، والوباء عم البلاد. الصحراء أكلت الوادي الأخضر والأقاليم أرض خراب، والأجنبي قد دخل مصر.
 
قمح مصر غدا نهبا مشاعا، والتماسيح تَخِمت بالبشر؛ فالناس يلقون بأنفسهم بين فكاكها طائعين. بناة الأهرام قد صاروا أجراء، الفقراء يجأرون بالشكوى قائلين: (ما أفظع الحال! فما العمل؟) بل إن ماشية الوادي لتنوح على مآله". ثم يقول:
 
"تذكر أن تلتزم بالقوانين. تذكر أن تضبط المواعيد! نذكر أن تذبح العجول، وأن تقدم الأوز قربانا على النار"..
 
ويعلق لويس عوض على هذا بقوله: 
 وهكذا نجد أن الكاتب "أبو وير" صاحب أقدم احتجاج عرفه التاريخ.. فهو لا يكتفي بعرض قضية الشعب على الملك، بل يطالبه بأن يحترم قوانين البلاد، وأن يخشى غضب الآلهة. وهو لا يكتفي بعرض صور البؤس الناطق عليه بل يعير الملك حين يوازن بين عصره الفاسد وعصور أسلافه الزاهدين وذلك في قوله: 
 
 "أيام الخير هي الأيام التي تمتلئ فيها شباك السماكين، وتقوى فيها الدواجن بعد هزال، وتبني فيها سواعد الناس الأهرام. أيام العز هي الأيام التي تحفر فيها الينابيع وتستصلح الطرقات، ويقف فيها حكام المناطق فلا يرون إلا فرحا في مناطقهم. وحين ينعم كل إنسان بفراش ظليل فيأمن من الحاجة وترضى نفسه. أيام الخير هي أيام أن يكتسي رأس العام الجديد بأجمل الكتان".
 
ثم يعود لويس عوض لاستكمال تعليقه فيقول: 
 "نحن - إذن - بإزاء كاتب حر من الطراز الأول يعنف الملك ويشرح له أصول الحكم وهي احترام القانون ومخافة الله، بل نحن – إذن - بإزاء مُصلح اجتماعي يرسم برنامجا عمليا للفرعون مطلق اليد في العباد؛ لينتشل مصر من وهْدَتها".
 
 إن تنقيب لويس عوض عن هذا النموذج الفذ في تراث مصر وتقديمه على صفحة "الجمهورية" في تلك الفترة يدل دلالة قاطعة على وعي لويس عوض وصدق التزامه بدعوته وشجاعته. فهذا النموذج يؤصل مسار الحرية في تاريخنا ويحدد علاقة الكاتب بالسلطة ومسئوليته في ترشيد الحاكم ومواجهته مهما كلفه ذلك من العنت والتضحيات.
 
هل للأدب الجديد نموذج محدد أو نمط جاهز؟
لم يطرح لويس عوض هذا السؤال مباشرة، ولكننا نجد الإجابة عليه في مقاله "الأدب الجديد" (الجمهورية 16 ديسمبر 1953) حين تحدث عن هدم القديم وبناء الجديد، وأكد أن عملية البناء يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع عملية الهدم. 
 
     "نحن لا ننتظر حتى نزيل البناء القديم المتآكل بأكمله لنضع الأساس الجديد وإلا طال انتظارنا.. ومن ينتظر (ذلك) كاتب مرتجل لا يعرف كيف يكون الأساس الجديد، ومفكر ضحل ليس في رأسه تصميم جديد، بل إنسان شيطاني يجد اللذة في التحطيم، ديدنه الهدم للهدم لا الهدم للبناء".
 
ثم يحذر من الارتجال بقوله:
 "أما نحن فلا نضع الأساس الجديد شبرًا شبرًا مرتجلين البناء بما توحي به الساعة أو ضرورات الظروف. كلا نحن نعرف التصميم ولما نبدأ البناء؛ ففي أذهاننا طراز كامل للمعبد الجديد معبد الفن".
 
لكنه سرعان ما يتنبه إلى ما يعنيه هذا القول من تقييد لحرية الإبداع والتجريب في الشكل فيقول:
"ولسنا نزعم أن رءوسنا تحمل جميع التفاصيل، فإن كانت كذلك فقد وجب الخوف منا، بل وجب الفرار منا. فمن جاء بتصميم كاملة تفاصيله، فهو إما نبي مرسل أو طاغية من طغاة الفكر بفرض نظاما كاملا في رأسه على الناس دون استشارة الناس. ومن كان كذلك كان كالباني بمفرده، ومن كان كذلك اتركوه وشأنه. واتركوه يسبح في ملكوت أوهامه فليس في الحياة من يبني وحده". 
 
"أما نحن فلا نعرف إلا التصميم العام. أستغفر الله، بل نحن لا نعرف إلا الطراز، أما التصميم المفصل فيشترك في وضعه أدباء الجيل الجديد.. أما البناء فسيشترك في إقامته أدباء الجيل الجديد، الكُتاب منهم والقارئون".
 
      ويختم كلامه مؤكدا أن الفن من كليات الوجود خليق بأن يقام له معبد شاهق جميل؛ لأن الله جميل.. معبد للحب لأن الله محب وحبيب.. معبد يدخله كل إنسان؛ لأن الله سوى بين الناس حين سواهم. معبد للسلام وللحرية.. معبد تقدس فيه الإنسانية لا الإنسان".
 
هذه العبارات الشعرية المرسلة لا تحدد شيئا حقا ولكنها تؤكد على إصرار لويس عوض على حرية التعبير وأن دعوته لهجر الأشكال القديمة في الشعر خصوصا لا تعني أن لديه شكلا محددا يريد أن يفرضه.. وإذا تذكرنا هنا ما قاله وما كتبه في ديوان "بلوتولاند" فيجب أن نتذكر أيضا أنه سماها تجارب جديدة.. أي محاولات لاكتشاف طرق للخروج من الأشكال الأدبية العتيقة التي لم تعد تلائم هذا العهد الثوري الجديد. 
 
الأدب الشعبي:
لقد أخذت المعركة بُعدًا جديدًا بدخول الدكتور عبد الحميد يونس إلى ساحتها، إذا اتجه في مقاله "نحو أدب جديد" بالجمهورية (13 ديسمبر 1953) إلى البحث في جذور المشكلة، ورأي أن محنة الأدب تتمثل أسبابها الحقيقية في إهمال تراث الأدب الشعبي المصري وقصر الاحتفال على أدب الفصحى بما فيه أدب الإجراء من المداحين والهجائيين.
 
وفي تشخيصه لأغراض الأزمة يقول عبد الحميد يونس:
"نحن نعترف بالأساس الطبقي للغة عندما نقسمها إلى لهجتين" لهجة فصحى ولهجة عامية. والأساس الطبقي لانقسام اللغة صحيح لا جدال فيه؛ باعتبار أن اللغة ظاهرة اجتماعية.
 
ولكن الخطأ في هذه الإثنية بالذات، هو إن الطبقات العليا في المجتمع لا تتحدث الفصحَى. ومعنى هذا أن واقع الحياة ينكر هذا التقسيم، فإذا أضفت إليه أن تسمية اللغة الحية بالعامية يجاوز الإنصاف، ويشتط في الحكم أدركت عرضا من أعراض الأزمة الأدبية".
 
"ولقد كان القدماء أصح منا نظرًا عندما كانوا يهتمون بما يصدر عن الألسنة في البيئات المختلفة، والقبائل المتعددة، ويحتكمون في الخطأ والصواب إلى سلامة الأصل الحي الذي تصدر عنه اللغة".
 
 "لكن عملية جمع التراث وإحيائه اقتصرت على التراث اللغوي فحسب، وبهذا وقعنا في خطَأَيْن جسيمَين:
 أولهما أننا جعلنا اللغة هي المقوم الأول والأخير في الإنتاج الأدبي، بل إننا اعترفنا بالقمة العليا للكيان اللغوي، وهي الفصحى وأنكرنا ما تحتها أو ما كان تحتها" 
 
ثانيهما أننا اقتطعنا حقبة طويلة من تاريخ العالم العربي، هي الحقبة الخصبة التي سبقت الفتح في بلاد عريقة مثل مصر وفلسطين وبلاد النهرين". 
أدب الفساد والاستنزاف: 
 
ثم شنَّ الأستاذ إسماعيل مطهر هجوما عنيفًا على أدباء العهد البائد وعلى أدب ما قبل الثورة فوصفه بالفساد، وجعل عنوان مقاله في الجمهورية "أدب الفساد" (15 ديسمبر 1953) جاء فيه:
 
وأصح ما يقال في هذا الأدب أنه "أدب التفريغ" أو "أدب الاستنزاف" الذي "امتص أخص ما في حياة الأمة من قوة، وأخذ يبددها تبديد المسرفين المتلفين، واتخذ إلى ذلك سبيل التضليل، وحشد الضلالات؛ حتى كادت الأمة تخر صريعة تحت أقدام الأصنام وأشباه الأصنام".
 
  وأعرب إسماعيل مظهر عن سعادته بأن "هذا النوع من الأدب لن يجد فرصة أخرى للعودة؛ إذ اتجهت الأمة من أكبر رأس فيها إلى أصغر يافع، نحو أدب جديد أي نحو حياة جديدة، عنوانها أدب القوة، أدب العنفوان، أدب الحرية، أدب الحق، أدب أقل ما فيه أنه أدب يرمي إلى تكييف الأمة بحيث تصبح أمة حرة تعيش في أرض حرة".
 
الأدب للأدب:
  وبدا واضحا أن هذه الكتابات التي نشرها الأدباء الجدد قد أثارت الدكتور طه حسين، فكتب مقالا مطولا في الجمهورية بعنوان "الأدب والحياة" (18/ 12/ 1953) يفند فيه آراءهم ويسخر من شعار "الأدب في سبيل الحياة" وأصحابه ويقول أنهم "يخطئون حين يظنون أنهم يبتكرون شيئا لم يألفه الناس منذ أقدم العصور، فكل أدب في أي أمة من الأمم إنما هو يصور نوعًا من أنواع حياتها، ولونًا من ألوان شعورها وذوقها وتفكيرها وانعكاس الحياة في نفوسها".
 
  ورغم هذا، فإن طه حسين يرفض أن يكون للأدب غاية يسخر من أجلها:
 "إن الأدب ليس وسيلة، ولا ينبغي أن يكون وسيلة، والأديب لا ينشئ أدبه لتحقيق هذا الغرض أو ذاك، ولا ليبلغ هذه الغاية أو تلك، وإنما الأدب نفسه غاية. والأديب يكتب لأنه لا يستطيع إلا أن يكتب.. كالزهرة التي لا تملك إلا أن تنشر العطر، أو النحلة التي لا تسأل لماذا تنتج العسل".
وأغلب الظن أن الدكتور طه حسين كان يخشى من تقييد حرية التعبير أو إلزام الأدباء بهدف محدد أو غاية معينة ويحذر من خطورة ذلك بقوله: "فأما أن يُسخَّر الأدب ليكون وسيلة من وسائل الإصلاح أو سبيلا من سبل التغيير في حياة الشعوب، فهذا تفكير لا ينبغي أن نساق إليه، ولا أن نتورط فيه". وكان الدكتور طه حسين محقا في هذا التحذير. فقد كان في ذهنه - ولا شك - صورٌ مما يجري في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية من اضطهاد وقهر للأدباء والمفكرين بدعوى المروق أو الخروج على خط الحزب الشيوعي.. 
 
لكن الدكتور طه حسين لم يكن محقا في اتهام الأدباء الشبان بتملق الثورة ومحاولة إرضاء قادتها.. كما هو واضح في هذه الفقرة:
 "وهم يرون الناس يكرهون الملوك لسوء آثار الملوك فيهم ولأن الثورة قد طردت ملكا، فلا يجدون بأسًا في أن ينتفعوا بهذه الظروف ليروجوا لدعوتهم، ويزيدوها إلى الناس قربا وإلى قلوبهم حبا. وكثير منهم يخيَّل إلى نفسه أنه يرضي الثورة بذلك، ويتقرب إلى رجالها" "ولكن الشيء المحقق أن أحدًا لن يلتفت إليه، ولن يوجد المعول الذي يعمل في هدم الأهرام أو في هدم مسجد من المساجد التي أنشأها الملوك وأصحاب الإقطاع. ولن توجد النار التي تضرم لحرق ديوان من دواوين الشعر أو كتاب من كتب النثر".
 
 وبعد أن قدم الدكتور دفاعًا مجيدًا عن الأدب القديم، وعن أدب المديح خاصة، دعا المتخاصمين معه إلى أن يريحوا أنفسهم من هذا كله "وأن ينقلوا الخصومة إلى صورة الأدب، فما عسى أن يكون الأدب الذي يريدون أن ينشأ في حياتنا الجديدة وأن يوجه الناس؟".
 
من تلميذ إلى أستاذه:
  كان اتهام طه حسين لهؤلاء الأدباء قاسيًا ومحرجًا لهم. وكان وقعه شديدًا في ذلك الحين، فانتفضوا جميعا في وجهه يحتجون عليه ويرفضون اتهامه. وكان أول هؤلاء هو الدكتور لويس عوض الداعية الأول لهذا الأدب الجديد.. ومحرر الصفحة "الأدبية بالجمهورية التي تبنت هذه الدعوة. فنشر خطابا إلى طه حسين عنوانه: "من تلميذ إلى أستاذه" (الجمهورية 22/ 12/ 53) استهله بمحاورة منطقية يمتزج فيها العتاب باللوم وكان بدايتها هذا السؤال: 
 
  "قال الفتى لأستاذه الشيخ: ما قولُك في فتى لا يغضب حيث ينبغي الغضب، وما قولك في شيخ يغضب؛ حيث لا ينبغي الغضب؟
   وهو سؤال غاية في اللباقة والدهاء يريد به لويس عوض أن ينتزع من أستاذه طه حسين الاعتراف بحقه في الغضب منه والاعتراض على رأيه خصوصًا وأن لويس عوض، كما يقول عن نفسه أشرف على الأربعين وما زال يقف خاشعا أما أستاذه كما كان وهو فتى في العشرين من عمره. 
 
وبحكم هذه العلاقة الحميمة جاء حديثه في شكل أسئلة هادئة رزينة تستنكر الاتهامات وتطالب أستاذه طه حسين بأن يفصح عمن يقصد وأن يسمي الأشخاص بأسمائهم والأشياء بأسمائها.  وهكذا ألقى لويس أسئلته على أستاذه:
 
"من منا قال: إن الوقت قد حان لنهدم الأهرام أو لنزيل المساجد التي بناها الملوك وأصحاب الإقطاع، ولنحرق دواوين الشعر التي أنتجها الأوّلون؟".
 ثم أوضح لويس عوض أنه يعرف أن بين طه حسين وإسماعيل مظهر خصومة قديمة لكن "ما يكتبه إسماعيل مظهر في "الجمهورية" لا يعبر إلا عن رأي صاحبه، 
 
ولا يملك أحد مصادرته.
لأن الجمهورية ليست لسان أحد بالذات من الكتاب ولا هي لسان حال رئيس التحرير حسين فهمي، ولا أنور السادات ولا جمال عبد الناصر ولا مجلس قيادة الثورة.. "بل هي لسان حال الشعب المصري كله بما فيه من يمين ووسط ويسار وترجو أن تكون كذلك هي لسان المحافظين والمعتدلين والثوار، هي صوت الماضي، وهي صوت اليوم، وهي صوت الغد؛ فيها القديم، وفيها الحاضر، وفيها الجديد الذي لا زال وليدًا..".
 
 ثم قال: "ولأن الجمهورية قد التزمت بحرية الرأي تجدني ملزمًا بنشر ما يكتبه الأستاذ إسماعيل مظهر أو الدكتور عبد الحميد يونس، كما أني ملزم بنشر ما يكتبه أستاذي ردًّا أو نقدا".
 
 وإذا تذكرنا أن هذا الكلام صدر في أواخر عام 1953، أي في بداية الثورة، أدركنا أنه كلام خطير، وأخطر ما فيه هو قول لويس عوض: 
1-إن دعاة الأدب الجديد قد بدءوا أدوارهم قبل الثورة بسنوات وتحملوا في سبيل أفكارهم الجديدة كثيرا من العنت والاضطهاد، ولم يثبت في طبعهم حب التسلق أو التزلف لأصحاب السلطان. 
 
2-إن لويس عوض، محرر الصفحة الأدبية بجريدة الجمهورية وحامل لواء دعوة الأدب في سبيل الحياة، يؤمن بحرية الرأي إيمانا جازما؛ بحيث لا يقبل مصادرة لأي رأي أو منعه من النشر سواء اتفق معه أو اختلف، وسواء كان هذا الرأي معبرا عن قوى اليمين أو اليسار أو الوسط أو حتى المحافظين؛ لأنه يؤمن بأن "الجمهورية" جريدة الثورة هي لسان الشعب المصري كله بجميع تياراته وينبغي أن تظل كذلك.