بقلم الأب يسطس الأورشليمى
عندما وقف القدّيس كيرلس الكبير يتحدَّث أمام آباء مجمع أفسس، قائلاً: "السلام لمريم والدة الإله، الكنز الملوكي للعالم كله، المصباح غير المنطفئ، إكليل البتوليّة، صولجان الأرثوذكسيّة، الهيكل غير المفهوم، مسكن غير المحدود، الأم وعذراء، السلام لك يا من حملتِ غير المُحوى في أحشائك البتوليّة المقدَّسة".
لأنها ولدت المسيح الطبيعة الواحدة من طبيعتين: ناسوتية ولاهوتية؛ لذلك الآباء وضعوا من العقيدة في التسبحة، إن العذراء تابوت العهد، كاروبيم يظللان على تابوت العهد، وأنتِ يا مريم ألوف ألوف وربوات ربوات يسبحون الرب الذي في بطنك. فالعذراء هي والدة الاله " ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعى اسمه عمانوئيل" (الله معنا ) الملاك يبشرها " ها أنتِ ستحبلين وتلدين ابناً ويكون عظيماً وابن العلي يدعى، والله يكون معه".
ميزت الكنيسة الأرثوذكسية في تعليمها عن مريم بين اصطلاحي "العبادة" و"التكريم"، فهي لا تدعو، مطلقًا إلى عبادة مريم كعبادة الله، وإنما تكرمها وتعظّمها لأن "إلهاً حقا وُلِدَ منها" (يوحنا الدمشقي)، وهي بذلك تطيع ما جاء على لسانها في إنجيل لوقا: "ها منذ الآن (أي منذ قبولي الإلهَ في أحشائي) تكرمني جميعُ الأجيال" (لوقا 1: 48).
تحمل عبارة "والدة الإله" تراثًا إيمانيًّا ذا قيمة لاهوتية عظيمة، فاللفظة اليونانية تعني "حاملة الإله" أي التي حملت الإله في رحمها، وقد وُضعَ فحواها أولاً على لسان أليصابات زوجة زكريا الشيخ التي لفظت ذاك النداء التعظيمي "من أين لي هذا أن تأتي أم ربّي إليّ؟" (لوقا 1: 41-43)، (غلاطية 4: 4)، وقد انتشر ذلك اللقب وانتشر انتشارًا واسعًا منذ بدء المسيحية وفق شهادة إكليمنضس الإسكندري.
استعمل لقب والدة الإله كثير من الآباء الأولين مثل: هيبوليتس، وأوريجانوس الذي شرحها في تفسيره للرسالة إلى كنيسة رومية، وديديموس الضرير، وألكسندروس بطريرك الإسكندرية الذي خطّها في رسالة وجهها إلى مجمع عُقد ضد بدعة أريوس في الإسكندرية في العام 320م (أي قبل المجمع المسكوني الأول بخمس سنوات)، وكيرلُّس الأورشليمي، وغريغوريوس النيصصي، وكيرلُّس الإسكندري وغيرهم، مما يؤكد أنها كانت معروفة ورائجة قبل أن سطرها الآباء عقيدةً في مجمع أفسس.
وهناك مَنْ يقول أن تسمية والدة الإله "مفتاحُ العبادة الأرثوذكسية الموجّهة إلى العذراء"، وذلك إننا "نكرم مريم لأنها والدة إلهنا، ولا نكرمها منفصلة عنه وإنما بسبب علاقتها بالمسيح"، "إن التعليم الأرثوذكسي المتعلق بوالدة الإله منبثق من تعليمها الخاص بالمسيح، وحين أكد آباء مجمع أفسس "تسمية مريم بوالدة الإله"، لم يكن ذلك بقصد تمجيدها بل من أجل الحفاظ على العقيدة الحق المتعلقة بشخص المسيح، ويخلص إلى القول: "وأولئك الذين يرفضون تكريم مريم هم أنفسهم أولئك الذين لا يؤمنون حقا بالتجسد".
يقول القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص: "إنّ ابن الله قد اتّخذ لنفسه جسدًا من العذراء، لذلك حقّ للعذراء أن تُدعى والدة الإله".
عندما ابتدع أريوس أن الابن مخلوق وأنه غير مساو للآب ولذا عندما أنكر لاهوت المسيح أنكر أيضاً أمومة العذراء مريم لله (الثيؤطوكوس) وقد قاومه البابا ألكسندروس والقديس أثناسيوس الرسولي.
أما اتباع أريوس، فعلى خلاف الغنوصيين والمانيين، أنكروا أن يسوع بن مريم هو ابن الله غير المخلوق، الواحد مع الآب في الجوهر الإلهي، أنكروا لاهوت السيد المسيح وبالتالي أنكروا أمومة القديسة مريم لله.
لهذا فإن آباء الإسكندرية مثل القديسين ألكسندروس، وأثناسيوس في مواجهتهم للأريوسية لقبوا القديسة مريم "الثيؤطوكوس" (والدة الإله). ففي الخطاب الدوري الذي وجهة القديس ألكسندروس للأساقفة (حوالي عام 319م)؛ حيث أعلن حرمان أريوس استخدام لقب "ثيؤطوكوس" بطريقة يفهم منها أن هذا اللقب كان مستخدمًا بطريقة لا تحتمل المناقشة، إذ كتب هكذا: "أننا نعرف القيامة من الأموات، فان البكر هو يسوع المسيح الذي حمل جسدًا حقيقيًّا وليس شكليًّا، مولودّا من مريم الثؤطوكوس (والدة الإله)". هكذا يسجل لنا قلمه لقب "الثيؤطوكوس" بطريقة طبيعية تاركًا هذا الانطباع أن هذا اللقب كان دارجًا مستقرًا ولم يكن موضع نقاش في أيامه.
وفي الجدال مع الأريوسية ركز القديس أثناسيوس على هذه الحقيقة أن السيد المسيح مولود من الأب، حمل هيئته الجسدية من الأرض غير المفلحة دائمة البتولية الثيؤطوكوس.
كما سجل القديس أمبروسيوس أسقف ميلان لحنا لعيد الميلاد علمه لشعبه لسند إيمانهم في المسيح يسوع بكونه الله الحقيقي لمواجهة الأريوسية: "تعالى يا مخلص العالم، اظهر ميلادك من البتول، ليعجب العالم كله من ميلاد كهذا يليق بالله".
إن قيمة العذراء في الكنيسة الأرثوذكسية لا تحد، وعندما عرّفها مجمع أفسس المسكوني بوالدة الإله لم يقصد إضعاف قيمتها بل إعلاءها، صفتها الأولى والأخيرة إنها " والدة الإله "، هنا تنقلب الآية عما هي في الواقع العادي: الأم تُنسب إلى ولدها من حيث القيمة لا الولد إلى أمه، أما يردد المرنم أنه ابنها وإلهها، ابنها وسيدها إلى ما هنالك من عبارات تعطيه الأولية عليها؟ وهنا يجدر بنا العودة إلى الفن الأيقونوغرافي الذي يمثل العذراء لا وحدها، كما في الغرب، بل مع ابنها ذلك الذي هي له أم ولذا فهي ما هي.
إذن وباختصار، كل موقف من أم الإله يمزجها إما بالناس الخطأة عمليًّا كما يفعل البروتستانت أو بابنها المخلص كما يكاد يفعل بعض اللاهوتيين الكاثوليك، موقف أما أن يحط من كرامتها وأما أن يمحو عنها إنسانيتها، العذراء نعم الوسط بين الرب يسوع والناس إذ فيها التقت ألوهة الابن بطبيعة آدم وتجسدت فيها، وإذا ابتعدنا قليلاً في التفكير وصلنا إلى نقطة هامة وهي أن العذراء لا تختلف عن الكنيسة جوهرًا، إن كل تفكير يبعد العذراء عن الكنيسة يقطع الصلة بين النعمة والطبيعة الإنسانية التي في العذراء، قالت لها: "ها آنذا أمة الرب"،. وإن كل فصل أو مقابلة بين العذراء وابنها له فصل لا يرتكز على شيء كتابي أو لاهوتي، المسيح وأمه شخصان إذا أكرمت أحدهما أكرمت الثاني، ونحن نكرم أحدهما الأم حتى نكرم الابن لأننا نعرف هذه المرأة قبل كل شيء أمًا لهذا الابن.
يقول القدّيس غريغوريوس النزينزي: "إن كان أحد لا يؤمن أنّ القدّيسة مريم هي والدة الإله، فهو غريب عن الله".
من أين أتى هذا اللقب؟ لقد استقاه المسيحيّون من قول أليصالات: "من أين لي هذا أن تأتي أمّ ربي إليّ؟" (لو 1: 43). فيسوع المسيح هو "الربّ"، ولقب الربّ هو من أسماء الله. "فالربّ هو الله"، فإذا كان المسيح هو الربّ، فأمّ الربّ هي "والدة الإله".
كلمة "ثيؤطوكوس" يونانية، تعني بالعربية "والدة الإله"، والكنيسة لم تطلق هذا التعبير تفخيمًا للعذراء، بل لكي تحمي وتُؤمِّن خلاصنا بالمسيح يسوع ربِّنا، في مواجهة كل من يتساءل: أيمكن لله الأزلي، الخالد، الباقي إلى الأبد، أن يُولَد من كائن بَشَري؟
ذلك لأنه تعبير يُوضِّح تمامًا، ويؤمِّن جيِّدًا، إيمان الكنيسة على مر العصور والأجيال بألوهية السيِّد المسيح الإله الحقيقي، أحد أقانيم الثالوث القدُّوس، (كلمة) الآب، الذي من أجل خلاصنا وُلِد من العذراء، واتَّحد بجسد حقيقيّ بغير اختلاط ولا امتـزاج ولا تغيير: "الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا"(يو14:1). وأيضًا "أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ" (غلا4:4و5).