بقلم: أندرو اشعياء
في البرية الشرقية، حيث الرمال تصلي بصمت، وحيث الجبال ترفع جباهها نحو السماء كقناديل من حجر، عشت سنين لا أسمع فيها إلا وقع أقدام النسّاك في تراب الصلوات، وهمس الريح وهي تقرأ المزامير عبر شقوق الصخور.

في هذه العزلة، صارت الأيام كحبات مسبحة، تنساب في يدي دون عدد، وأنا أرتل: «لَكَ قَالَ قَلْبِي: «قُلْتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي». وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ.» (مز 27: 8).

هنا، في قلاية ضيقة كصدر فقير، وجدت رحابة الملكوت. نت أُرتل المزمور: "إليك رفعت عيني يا ساكن السماء"، حين طرق الباب طرقًا خفيفًا كأن الطارق يخشى أن يوقظ حجارة الجبل.

فتحت الباب، فوجدت أخًا يحمل ظرفًا مختومًا. قال بصوت يخالطه الحياء: "اخطأت يا أبي… خطاب لك ". أخذت الظرف بيدي، فشعرت ببرودة غريبة تسري في أصابعي، كأن الرسالة أتت من شتاء بعيد. لم أسأل مِمَن، ولم أفتحها.

جلست على مقعدي الخشبي العتيق، والظرف أمامي على الطاولة، كجمرٍ صامت. كانت أختام الشمع حمراء كجرح، وعنوانه مكتوب بخط أعرفه جيدًا، لكن عيني رفضت أن تلتقط الملامح. في لحظة، تكدس العالم كله في هذا الظرف، طفولتي، بيتي، الوجوه التي تركتها على عتبة الدير. شعرت أن قطعة من حياتي القديمة تحاول أن تتسلق جدار قلايتي.

لمست الظرف بطرف أصابعي، ثم رفعت يدي سريعًا، كأنني لمست أفعى. في البرية، تعلّمت أن العدو لا يأتي دائمًا في هيئة حرب واضحة، بل أحيانًا في ورقة صغيرة، في جملة قصيرة، في نداء حنين. تذكرت قول القديس أنطونيوس: "سيأتي وقت تُلقى فيه الشباك من الداخل، فاحذر أن تمسكك."
بدأت الأفكار تتحرك في رأسي كرياح بين الصخور: ماذا لو كان في الخطاب خبر موت؟ ماذا لو مرضت أمي؟ أو ضاع أحد إخوتي في دروب الحياة؟ ماذا لو.. ماذا لو أو ربما… كان كل احتمال بابًا يقودني إلى العالم الذي تركته.

حملت الظرف بين يدي، ووزنه في كفي أثقل من وزنه!! إن فتحته، كسرتعهدي بالصمت عن الدنيا؛ وإن لم أفتحه، فقد أكون أغلقت قلبي عن واجب. أيهما الطاعة؟ أيهما المحبة؟ 

قلت في داخلي: «يا رب، أنت الذي قلت: من أحب أبًا أو أمًا أكثر مني فلا يستحقني، وأنت أيضًا الذي قلت: أكرم أباك وأمك. كيف أُوفّق بين كلمتيك؟» ولم يأتِ الجواب. لكن قلبي تذكّر فجأة قول القديس يوحنا السلمي: «الطاعة موت العقل مع الحياة بالله.» فهل أفتح الظرف بعقلي أم أغلقه بالطاعة؟
لقد قال لي أبي الروحي : «احذر أن تخلط بين الرحمة والحنين؛ فالرحمة من فوق، والحنين من الأرض.» الآن فقط فهمت أن الحنين يلبس ثوب الرحمة ليعبر إلى قلب الراهب.

ومع صلوات متواترة حتى الفجر، تسلّل الضوء من شقوق الباب الخشبي، شعرت بأنفاس سلام تتسلل إلى قلبي، لا كجواب نهائي، بل كحضور. فهمت أن دعوتي هي أن أرفع العالم، لا أن أنزل إليه، أن أكون سراجًا في البرية، لا شمعةً في بيتٍ واحد. إن كنت حقًا أحب أمي، فأعظم هدية أقدّمها لها هي أن أكون ابنًا أمينًا لله، فتصير أمًا لراهب لم يخن عهده.

لقد كان القرار في قلبي: أن لا أفتحه. لا لأنني قاسٍ، بل لأنني أحب، ولأنني أثق أن الذي يعتني بالغربان يعتني بأهلي. وضعت الظرف في صندوق خشبي، وأغلقته، ثم جلست أرتل: "سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي" (مز 37: 5).

ومنذ ذلك اليوم، لم يعد الظرف ورقة مختومة، بل صار أيقونةً تذكّرني أن المحبة الحقيقية أحيانًا تختار الصمت، وأن السماء لا تُفتح إلا حين نغلق أبواب الأرض بإحكام. 

ولهذا، صنعت صندوقًا وكتبت عليه «إرادتي» وهكذا، كل شئ اُلقيه هاهنا، كعلامة وتذْكرة وبرهان ثم أدفنه لا بالكبت بل بيقين الحُبّ..