"عندما صافح البابا الفن الحديث: قصة مصالحة غيرت وجه الفاتيكان"
فنّانُ السّلطةِ الرّوحيّة ومُهندسُ المصالحة بين الكنيسة والعالَم
بقلم: أيمن فايز
(فنان تشكيلي وكاتب إيقونة بيزنطية)
تَجَلَّى البابا بولس السّادس (Paolo VI) لا بوصفه رأسًا للكنيسة الكاثوليكيّة فحسب، بل كضِياءٍ ذهنيٍّ متّقدٍ في زمنٍ أَسْدَلَ فيه الغَبَشُ سُدُولَهُ على الأنوارِ الكُبرى.
وُلِدَ في عام 1897، ونشأ في كَنَفِ أسرةٍ إيطاليّة تُجيد العدل كما تُتقنُ الثقافة. سَلَكَ طريق الكهنوت، لكنّه لم يَخلع عن فكره طموحَ المُفكّر، ولم يتخلَّ عن رُؤاه حتّى وهو يرتدي حِلل اللاهوت المُهيبة.
قبل أن يبلغ السدةَ البابوية عام 1963، كانت حياة جُوفاني باتِّيسْتَا مُونْتِينِي (Giovanni Battista Montini) قد تشبّعت بعمق الفكر الأوروبي وتلاحقت مع عقلانية باريس.
تَشَرَّبَ جُوڤانِّي باتِّيسْتَا مونتِينِي روحَ الفلسفة المدرسيّة، وتضلّعَ في عِلم القانون في معاهد ميلانو وروما، غير أنّه لم يتوقّف عند أسوار التخصّص الأكاديمي، بل انفتح باكرًا على أدبيّات الثقافة السياسيّة الحديثة، يتابعها لا ببرود الباحث، بل بِشغفِ مَن يُصغي لتحوّلات العالَم.
وحين نُدِبَ نُونْسِيُوسًا (سفيرًا بابويًّا) إلى باريس، لم يَحْضُر كمبعوثٍ للكرسي الرسوليّ وحسب، بل كقلبٍ حيّ يسكن في عمق الاضطراب الفكريّ للعصر.
هناك، في قلبِ باريس التي كانت تُفكِّك الميتافيزيقا وتعيد رسمَ ملامح الإنسان، التقى بكبار المفكّرين والفنّانين الذين شكّلوا ضمير القرن العشرين: من جاك ماريتان إلى جان كوكتو، من أندريه مالرو إلى بيكاسو...
لم يكن لقاؤه بهم عابرًا، بل كان انغماسًا في النبض العميق للزمن.
وكان يهمسُ في حزنٍ يكاد يكون صلاة:
"كيف نطلب من الفنّانين أن يُؤمنوا، ونحن لم نُصغِ إليهم حين بكَوا على عتباتِنا؟"
كان يرى، بعينٍ مجروحة، الفَصامَ المتفاقم بين الكنيسة والجمال، بين الإيمان والتعبير، بين العقيدة ودمعة الرسّام.
وكان يسأل، لا كمن يبحث عن إجابةٍ، بل كمن يفتّش في أطلالِ العلاقة عن بذرةٍ جديدة:
ما الذي كسر الميثاق بين الكنيسة والفنّ؟
وأيُّ عَمى جعلها تنسى أنّ الفنّ هو أقرب المرايا إلى الله؟
في قلب المجمع الفاتيكاني الثاني، الّذي كان قد افتتحه يوحنّا الثالث والعشرون، واصل بولس السادس المسيرة، لكنّه ألبسَ المجمع ثوبًا آخر: ثوب الحوار. لم يكن هدفه الإصلاحُ الإداريّ أو إعادة الهيكلة الطقسيّة فقط، بل كان يسعى إلى مصالحة الكنيسة مع قلب الإنسان الحديث، مع قلقهِ، وألمهِ، ومزاجه المتغيّر.
جاء دستور "فرح ورجاء" (Gaudium et Spes) كصرخةِ حبٍّ بين الكنيسة والعالم، بين العقيدة والحياة. لم تعد الكنيسة في نظر بولس السادس قلعةً من عاجٍ، بل خيمةً متّسعة تنبض بلغة الناس وهمومهم وآمالهم. ولم يكن المجمع الفاتيكاني الثاني إصلاحًا إداريًّا فحسب، بل تَجديدًا لرؤية الكنيسة لِذَاتِها ودورها في العصر.
أعاد بولس السادس صياغة العلاقة بين الكنيسة والفنّ، لا بوصف الفنّ وسيلة تزيين للكنائس، بل كأداةٍ روحيّة تُسائل الإنسان وتُفتّحه على السرّ. وفي عظاته وخطاباته، كان يَرِدُ الفنّ لا بوصفه ملحقًا لليتورجيا، بل بوصفه أخًا لِلوحي، ورسولًا للجمال الإلهيّ.
وقد قال قولته الشّهيرة: "إنّ الكنيسة تحتاج إلى الفنّ، وإنّ الفنّ بحاجة إلى الكنيسة."
لكنّ بولس السادس لم يكن شاعرًا فقط، بل رجلَ جراحات، عايش آلام الكنيسة في فيتنام، وصرخات إفريقيا، وخيانة بعض من رَجاله. كتبَ "التقدّم الشعبي" (Populorum Progressio) كأحد أعظم نصوص الكنيسة في قضايا العدالة، والاقتصاد، والسيادة، والكرامة. وكان في خطابه السياسيّ أشدّ وضوحًا من كثير من زعماء عصره.
ولعلّ الحدث الّذي يُؤرّخ به لتحوّل الكنيسة إلى "كنيسة المسكونة" هو زيارته التاريخيّة إلى الأرض المقدّسة، حيث التقى البطريرك أثيناغوراس في القدس عام 1964، في مشهدٍ تقشعرّ له الرّوح، إذ ذابت فيه قرونٌ من القطيعة بين روما والكنائس الأرثوذكسيّة.
وما بين "السِّينُودُس" و*"الرسالة"، "الإنجيل" و"الحداثة"*، كان بولس السادس كمن يُبحر في عاصفة، لا يخاف من الأمواج، لأنّ شراعه مصنوعٌ من النور.
أسّس القسم الحديث في متاحف الفاتيكان، وأضاف مجموعة ضخمة من أعمال الفنّانين المعاصرين، حتّى أولئك الّذين لا يشاركون الكنيسة عقيدتها، لأنّه آمن بأنّ كلّ بحثٍ عن الجمال، وإن جاء من الحوافّ، قد يُلامسُ جوهرَ الحقيقة.
في عام 1964، وبعد شهور قليلة من جلوسه على عرش البابوية، دعا فناني عصره ومثقفيه إلى لقاء تاريخي في قاعة الكنيسة السادسة بالفاتيكان. لم يكن مجرد لقاء عابر، بل كان اعتذارًا صادقًا، وميثاق صداقة جديدًا بين الكنيسة والفنانين، حيث قال أمامهم:
"نحن الذين أطفأنا شعلة الإبداع... نطلب الصفح."
كان هذا الاعتذار ليس للماضي فقط، بل للمستقبل، صلاة بصرية ترفع الحجب بين سماء الإيمان وأرض الفن.
أراد البابا أن يرسل رسالة صداقة جديدة بين الكنيسة والفنانين، مشيرًا إلى أن الكنيسة التي رفعت قبة سيستينا Cappella Sistina أصبحت ترضى بفن يتلمس اليأس، متسائلًا كيف تحولت من حاضنة الإبداع إلى سجّانته، وكيف صارت القيم المسيحية جامدة لا تلهم.
وكان جوابه يكمن في روح المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي تخلت الكنيسة فيه عن لغة التكفير واتخذت الرحمة لسانًا. صار العالم ليس ميدان معركة، بل بيتًا كبيرًا نشارك فيه هموم البشرية.
استقبل الفن الحديث ليس كخصم، بل كرفيق طريق. لم يُنكر الألم الموجود في تلك اللوحات، بل احتضنه، فالفن المعاصر يفضح الجراح ويكشف الحقيقة في لحظات الشك والتجدد.
كان هذا اللقاء أشبه بحوارٍ صامت بين روح البابا وروح الفنانين الذين رسموا آلام الإنسان وأماله بلغة الألوان والخطوط. فالفاتيكان فتح أبوابه لقاعات تتنفس الحداثة مع الحفاظ على قداسة المكان وروحه.
لقد فهِم البابا أنّ الفنّ المعاصر لا يسعى إلى تمجيدِ الجمال المثاليّ، بل إلى الغوصِ في القبحِ والتشظّي بحثًا عن افتداءٍ جديد. وهذا بالضبط ما جعله يُدافع عن هذا الفنّ، لا بصفتهِ ترفًا، بل كصيغةِ نبوءةٍ.
لقد رأى بولس السادس أنَّ الجمال، في جوهره، مسألة خلاص، وأن الفنان ليس ترفًا، بل شاهدًا، نبيًّا، وأحيانًا شهيدًا. وكان يقول: "الفنّان لا يُقدّم للكنيسة حلًّا، بل يَهبُها نافذة."
في زمنٍ عزف فيه الكثير من الفنانين عن الإيمان، مدَّ هو اليدَ إليهم، لا ليُخضعهم، بل ليُصغي. في زمنٍ انهارَ فيه المعنى، آمنَ أنّ الإبداع، إذا نُقّي من الابتذال، قادرٌ أن يُقيم من الرماد شموسًا.
البابا بولس السادس لم يُعد الفنّ إلى الكنيسة فحسب؛ بل أعاد الكنيسة إلى الفنّ. جعلها تنصت من جديد. جعلها تنظر، لا فقط تُعظ، بل تُصغي. ومن قلب هذا الإصغاء، نبت حوارٌ جديد، لا يزال يتردّد صداه في أروقة الفاتيكان حتّى اليوم.
لوحة فان جوخ في متاحف الفاتيكان: ألوان الألم، نور الرجاء
لم يكن يكتفي بالكلمات. لقد كتب ذات مرّة عن فان جوخ، لا كمُعجبٍ، بل كمَن يرى فيه "شهيدًا للجَمال"، و "رسّامًا للضوء الذي يُقاومُ الظلمةَ من داخلِ العُزلة".
رأى فيه راهبًا دون دير، وصوفيًّا دون طقس، يتأمّلُ القمحَ والنجومَ ووجهَ الإنسان، ويكتبُ باللونِ ما لا تُطيقه اللُّغة.
كان يرى في لوحاتِه نبوءةً صامتة، وفي ضربات فرشاته صلاةً متّقدة، لا تقلّ قداسةً عن ليتورجيا الكلمات.
وفي إحدى تأمّلاته، تَوقَّف عند "العين المتألّمة للفنّان، تلك التي أصبحت قناةً للنعمة"—عينٌ رأت الله في عتمة النفس كما في ضوء الحقول، ولم تُنْتِج فنًّا فحسب، بل تَضَرُّعًا باللون.
ومن بين روائع هذه المجموعة، لوحة صغيرة تحمل توقيع فينسنت فان جوخ (Vincent van Gogh)، وربما رسمها في أكتوبر 1889، قبل أشهر قليلة من رحيله. هي نسخة من لوحة "البييتا" (Pietà) لأوجين دي لا كروا (Eugène Delacroix)، لم يرها فان جوخ إلا عبر نقشٍ بالأبيض والأسود، فلم يعرف ألوانها الحقيقية، لكنه أعاد تشكيلها برؤية إنسانية صادقة.
كان فان جوخ لا يرسم مجرد مشهد تاريخي، بل كان يحكي قصة إنسانية صادقة: امرأة ترفع يديها العاملتين المفتوحتين تعبيرًا عن اليأس، تحمل جسد ابنها الميت بين ذراعيها، خلفها شجرة زيتون ملتوية، بائسة، تمثل الطبيعة العارية بلا زخارف، بلا أقنعة.
لقد أراد فان جوخ أن يعكس في هذا العمل الإنسان العادي، المهمش، المعذّب، صاحب المعاناة الحقيقية، فأسلوبه البدائي لا يبتعد عن الواقعية، بل يغوص في عمقها، حيث ضربات الفرشاة ليست مجرد ألوان، بل هي قوة الطبيعة التي تتحرك بكل قسوتها ورقتها.
خوف فان جوخ من العالم لم يكن تراجعًا، بل تأملًا عميقًا في حيوية الوجود، حيث يرى العالم ككائن حيّ، يحمل في داخله مزيجًا من الخلق والدمار، من الضوء والظلام، وهو يسبر أغواره بتلك الألوان الزاهية – الأصفر، الأحمر، الأزرق – التي لا يستطيع إلا هو تخيلها، ويعيد من خلالها للفردانيّة الإنسانية حقّها في التعبير والتجلي.
وهنا يكمن سرّ الربط بين رسالة البابا بولس السادس وفان جوخ:
إن التاريخ المقدس ليس قصة ماضٍ بعيدة، بل هو حاضر أبدِيّ في حياة كل إنسان، قصة الألم والحب والرحمة التي تُكتب في كل لحظة.
رأى بولس تجسيدًا لحقيقته: الله لا يقيم في القباب وحدها، بل في جراح المعذبين أيضًا. وكأنّه سمع فان جوخ يهمهم لأخيه:
"إذا سمعتَ صوتًا يقول: لا تستطيع الرسم، فارسم حتى يصمت!"
فكذلك الإيمان: إذا سمعتَ صوتًا يقول: لا يمكن أن يتجدَّد، فتجدَّدْ حتى يخرس الزمن.
فان جوخ، برسمه، وبولس السادس، بكلمته، يدعونا إلى النظر للفن والإيمان كرحلة مشتركة نحو الفهم الحقيقي للوجود، حيث لا تُقمع الأصوات، ولا يُخنق الإبداع، بل يُحتضن ويتجدّد باستمرار، لأن الإيمان الذي لا يتجدد هو جسد لا يتنفس، والفن الذي لا يُسمع صوته هو روح ميتة.
اليوم، في متاحف الفاتيكان، لا تسير بين جدران صامتة، بل تمرّ في كائنٍ يتنفس التاريخ والرؤيا. في قاعة رافائيل، ترنو إلى صلواتٍ من خطٍّ ولون. وفي قاعة الفنّ المعاصر، تُصغي لأنينٍ جماليٍّ يصلّي بلغة الجُرح والنور. هذا التجاور، هو الوصل لا الفصل.
الفاتيكان لم يبنِ متحفًا، بل بُستانًا زمنيًّا تتشابك فيه الأزمنة كأغصانٍ لشجرةٍ واحدة.
في النهاية، لم يُرد البابا بولس السادس جمع لوحات، بل أراد أن يُعيد كتابة العهد بين الخالق والخَلق.
رأى
"الفنّ الحقّ لا يخدم الإيمان، بل يكشف وجهه الأبدي، ويُسائله، ويرفع وجهه نحو الأبد.
والبابا بولس السادس فهم ذلك: لذلك أعاد صياغة التاريخ، بقلمٍ من نور، وقلبٍ من رحمة."
إرثٌ لا يموت
حين رحل بولس السادس عام 1978، لم يترك وراءه إنجيلًا آخر، بل فتحَ بابًا لا يُغلق: أن يُصغي اللاهوتُ للأنينِ البصريّ، وأن يُدرك الفنّان أن صليبَه الخاصّ هو مرآةٌ لصليبِ المسيح.
من بعده، مشى البابا يوحنا بولس الثاني على الطريق ذاته، مُصدِرًا رسالته الشهيرة للفنّانين عام 1999، ثم تبِعه بندكتوس وفرانسيس.
في زمنٍ تسقطُ فيه المعاني، وتتصارعُ الصورُ بلا روح، تظلّ نبوءةُ بولس السادس صالحة:
«حين يُغلق العقلُ أبوابَه، يَفتح الفنُّ شبابيكَ الروح».
#فن_وإيمان #الفاتيكان #بولس_السادس #فان_غوخ #سيستينا #إِيقونة_بيزنطية