هاني صبري - الخبير القانوني والمحامي بالنقض
تعتبر قضايا إثبات أو نفي النسب من قضايا الأحوال الشخصية الشائكة التي تُمثل إحدى أعقد المشكلات التي تواجه المتضررين ، نظرًا لما تحمله من أبعاد اجتماعية، وأخلاقية، وإنسانية، فضلاً عن آثارها القانونية طويلة الأمد.
ويُلاحظ أن هذه القضايا قد تبقى منظورة أمام المحاكم لسنوات طويلة، في ظل غياب تشريع واضح يلزم بالاحتكام إلى الوسائل العلمية الحديثة، مما يؤدي إلى ضياع حقوق الأطفال، وقد ينتهي الأمر بعدم الاعتراف بهم قانونيًا، وهو ما يُعد كارثة إنسانية وقانونية لا يجب السكوت عنها. في ظل تزايد هذه النوعيات من القضايا في أروقة المحاكم.
وفقاً للأصول المقررة في الفقه الإسلامي فإن النسب يثبت شرعًا بالفراش، أي بالزواج الصحيح القائم. فإذا وُلد الطفل بعد مرور ستة أشهر على الأقل من تاريخ الزواج، وكان من الممكن الحمل من الزوج، يثبت نسبه إليه دون الحاجة إلى إقرار أو دليل. أما إذا أنكر الزوج النسب، فلا يُقبل نفيه إلا بشرطين:
1. أن يتم النفي وقت الولادة.
2. أن يُلاعن الزوج زوجته أمام القاضي.
ويُقصد بالملاعنة في حكم الشريعة الإسلامية أن يتهم الزوج زوجته بالزنا دون أن يُقدّم أربعة شهود، فيُطالبه القاضي بأداء اليمين أربع مرات بأنه صادق، (ليدفع عن نفسه حدّ القذف) ثم في المرة الخامسة يقول: “لعنة الله عليَّ إن كنت من الكاذبين.” ويحق للزوجة رد الاتهام التي تريد أن تدرأ عن نفسها حد الزنا بأداء القسم أربع مرات بأنه كاذب، وتختم بقولها: “وغضب الله عليّ إن كان زوجي من الصادقين.
وبعد الملاعنة، تُفرّق المحكمة بينهما تفريقًا مؤبدًا، ويدرأ الحد عنهما، وتنتفي نسبة الولد الذي لاعن فيه عن الزوج زوجته.
جدير بالذكر أنه من المقرر قانوناَ عملاَ بنص المادة 15 من القانون رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 أنه: "لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجه ثبت عدم التلاقى بينها وبين زوجها من حين العقد ولا لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج عنها ولا لولد المطلقة المتوفى عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة .
وحيث إن المستقر عليه فقها – وفق الراجح بالمذهب الحنفى – تطبيق قاعدة: الفقهية "الولد للفراش، وللعاهر الحجر"، ومعناه الولد لمالك الفراش وهو الزوج أو المولى، أي السيد، والمراد من "الفراش" هو المرأة، فإنها تسمى "فراش الرجل".، للعاهر الحجر يقصد بها الكناية عن خيبته وعدم ثبوت شيء له.
وهذا ما جرى عليه العمل في المحاكم على تطبيق قاعدة "الولد للفراش"، وهناك مأساه تتكرر فى حالات طلب الآباء نفى النسب، ويطلب إجراء تحليل الحمض النووي (البصمة الوراثية DNA)، ومع ذلك ترفض المحكمة إحالة الدعوى لمصلحة الطب الشرعى، لان ذلك يخالف القانون الذى هو قد اعتد بالمذهب الحنفى كمرجع تشريعى إذا خلا نص قانونى من تنظيم مسألة بعينها – فالزوج نفسه يفاجأ بأنه مجبر على أن يكون أبا لأطفال ليسوا من صلبه، وترفض المحكمة الاعتراف بنتيجة تحليل الحمض النووي( DNA ) باعتباره دليلا قاطعا وتطبق قاعدة "الولد للفراش" .
وهناك ثغرات في القانون تزيد الأمر تعقيدا في ظل غياب نص في القانون المصري يلزم المتنازعين بإجراء تحليل الحمض النووي DNA ، الذي يعده الخبراء دليلا جازما في حسم هذه القضايا، فلا تجري هذه الفحوصات إلا إذا وافق الأب على إجرائها لكن المحكمة لا تلزمه بإجراء تلك التحاليل.
في تقديري الشخصي فى حالة إنكار أو إثبات النسب يجب أن يكون القول الفصل للناحية العلمية عن طريق تحليل الحمض النووي (DNA) فحص الأبوة أو اختبار إثبات النسب، هو اختبار معملي يتم عن طريق مقارنة الخريطة الجينية لرجل ما مع الخريطة الجينية للطفل المراد إثبات نسبه إلى ذلك الرجل، بهدف التحقق من وجود علاقة بيولوجية بينهما.
فالحمض النووي هو أشهر جزيء حيوي يوجد بداخل نواة الخلية في كل أشكال الحياة على الأرض، ويعبر عن الأكواد أو الرموز الجينية التي تشكل الكائن الحي، ويحمل الحمض النووي تعليمات النمو، والتطور، والتكاثر، وجميع وظائف وصفات الخلايا، حيث يتميز كل فرد بمجموعة خاصة وفريدة من رموز الحمض النووي المرتبة في هيئة سلاسل أو تتابعات، لا يشترك فيها مع أحدٍ آخر، تتم مقارنة تلك السلاسل الفريدة من الحمض النووي بين الأب والابن المراد إثبات نسبه، ويتم إقرار أو نفي نسب الابن تبعاً لدرجة التشابه في النتائج والتي قد تصل إلى نسبة 99.9% أو تنتفي تماماً ليكون التشابه بنسبة 0%. ويعتبر تحليل ( DNA ) أدق وسيلة توصل إليها العلم الحديث لإثبات أو نفي النسب.
كما يجب ان تكون أولى بالحجية من (القيافة) ، لاعتماد الحمض النووي على أسس علمية واضحة وتعطي نتائج يقينية فقطعاً يستطيع اختبار الحمض النووي أن ينفي بنوة طفل إلى رجل ما أو يقدم أدلة قوية على إثبات البنوة.
أن الحمض النووي يتواجد بكل خلايا الجسم، لذا تعتبر خيارات سحب العينات كثيرة ومتعددة، ومنها: مسحة من لعاب الفم.عينة دم، وتكفي بضع قطرات فقط ، الأظافر أو قصاصات الشعر.ولم يعد من الضروري الانتظار إلى ما بعد الولادة للتحقق من نسب الطفل، فبالإمكان الآن بفضل التقنيات الحديثة إجراء الاختبار قبل الولادة أو أثنائها.
تجدر الإشارة أن معامل الطب الشرعى التابعة لوازارة العدل بها كل الإمكانات العلمية والاجهزة المعتمدة لإجراء هذا التحليل ، لذا نطالب بأن تكون الأدلة العلمية الدامغة لتحليل الحمض النووي( DNA ) التى ثبتت بصورة يقينية وتقنية صحيحة أن يُعتد به قانونًا
فكل إنسان يحمل شفرة جينية فريدة، لا تتكرر لدى أي شخص آخر، وتمثل توقيعًا بيولوجيًا خاصًا به. وبالتالي، فإن الحمض النووي يجب أن يُعتد به قانونًا كدليل قاطع، لا مجرد قرينة.
لذلك يجب تنقية كتب التراث من الاّراء التي تخالف العلم .
حيث أباح الإسلام الاجتهاد في المسائل المستحدثة، أو التي اختلف فيها الفقهاء بسبب غياب دليل شرعي وبذلك يمكن الاستفادة من العلوم الحديثة والتقنيات المتطورة في إصدار القرارات الفقهية اللازمة لمثل هذه المسائل والقضايا وفق التصورات العلمية المقدمة من خبراء التخصصات الفنية المختلفة.
نحن أمام قضية تمس جوهر العدالة وأبسط الحقوق الإنسانية، وتتطلب تشريعات تستجيب لمستجدات العلم وتطور المجتمع. إن اعتماد تحليل الحمض النووي كوسيلة لحسم قضايا النسب لا يمثّل خروجًا عن الثوابت الدينية، بل هو اجتهاد مشروع في ضوء المستجدات العلمية. فكما قال الإمام الشافعي: “ما من مسألة إلا ولها وجه في العلم.”
والذي يؤيد وجهة نظرنا ما عن صدر عن المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في البيان الختامي في دورته الخامسة عشرة بمكة عام 1998 ، أن البصمة الوراثية تعتبر طريقًا من طرق إثبات النسب «لو تنازع رجلان على أبوة طفل، فإنه يجوز الاستفادة من استخدام البصمة، واللجوء إلى العلم ليقدم الدليل الذي يبحث عنه. كأن يستعين القاضي بالطبيب الشرعي لتفسير المسائل الطيبة وتوضيحها. ويلجأ إلى الدليل الفني لإثبات وتأكيد حق متنازع فيه.
كما جاء ايضاً في قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته السادسة عشرة (21-26/ 10/ 1422هـ) الموافق (5-10/ 1/ 2002م): "إن نتائج البصمة الوراثية( DNA ) تكاد تكون قطعية في إثبات نسبة الأولاد إلى الوالدين أو نفيهم عنهما، وفي إسناد العينة (من الدم أو المني أو اللعاب) التي توجد في مسرح الحادث إلى صاحبها، فهي أقوى بكثير من القيافة العادية (التي هي إثبات النسب بوجود الشبه الجسماني بين الأصل والفرع).
هناك العديد من الدول العربية أدرجت البصمة الوراثية في قوانينها كوسيلة ملزمة لإثبات النسب، منها:
- المملكة العربية السعودية قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة، الدورة العاشرة، بشأن البصمة الوراثية ومدى حجيتها في إثبات النسب.
- الإمارات العربية المتحدة قانون الأحوال الشخصية رقم (28) لسنة 2005، المادة (68) التي تنص على جواز استخدام تحليل البصمة الوراثية في إثبات النسب.
- قطر قانون الأحوال الشخصية رقم (22) لسنة 2006، المادة (57) التي تنص على جواز استخدام تحليل البصمة الوراثية في إثبات النسب.
- الكويت قانون الأحوال الشخصية رقم (51) لسنة 1984، المادة (75) التي تنص على جواز استخدام تحليل البصمة الوراثية في إثبات النسب.
- المملكة الاردنية الهاشمية قانون الأحوال الشخصية رقم (61) لسنة 1976، المادة (57) التي تنص على جواز استخدام تحليل البصمة الوراثية في إثبات النسب.
- تونس قانون الأحوال الشخصية رقم (58) لسنة 1956، المادة (68 مكرر) التي تنص على جواز استخدام تحليل البصمة الوراثية في إثبات النسب.
- المغرب مدونة الأسرة، المادة (156) التي تنص على جواز استخدام تحليل البصمة الوراثية في إثبات النسب.
وبناء عليه فإنني أناشد المشرع المصري أن يعالج ذلك الخلل بتعديل تشريعي عاجل يُلزم بإجراء تحليل الحمض النووي في قضايا النسب، ويمنح المحاكم صلاحية اعتماد نتائجه كدليل قطعي، وفي حال رفض الأب إجراء التحليل دون مبرر، يُعد ذلك قرينة قانونية ضده تُعتد بها لصالح المدعية.