د. ماجد عزت إسرائيل
في حياة كلٍّ منّا مواقف لا تُنسى، منها ما يُلهم ويستحق أن يُدوَّن في سجلات التاريخ، ومنها ما نرجو لو مُحي من الذاكرة لما يحمله من أتعاب أو مرارة أو أثر يصعب تجاوزه. لكنّ المؤرخ، بطبعه، لا يختار ما يرويه، بل يحتضن هذا وذاك، ويمزج بين المشاعر الشخصية وشهادة الواقع، ليصوغ سردًا أمينًا لما كان، ويمنح الأجيال المقبلة حقّ المعرفة والامتنان.وقد شاءت العناية الإلهية أن أكون شاهدًا على محطات مضيئة في حياة مثلث الرحمات نيافة الأنبا ميشائيل، ألمانيا'> أسقف جنوب ألمانيا ورئيس دير الأنبا أنطونيوس بكريلفباخ بفرانكفورت، فعايشت عن قرب مواقف امتزجت فيها الأبوة بالحكمة، والبساطة بالعمق، والخدمة بالصمت النبيل. وفي الذكرى الثانية لرحيله عن عالمنا الفاني في 5 أغسطس 2023م، أجدني مدفوعًا لا بالتأبين فقط، بل بالأمانة التاريخية تجاه من ترك أثرًا وبصمة روحية وإنسانية في حياة الكثيرين.
وقد تعرفت على نيافته أولًا من خلال جلسات متفرقة عبر السنوات، قليلة من حيث العدد، لكنها عميقة في مضمونها. تطور التواصل فيما بعد إلى اتصالات هاتفية، ودار بيننا أكثر من نقاش روحي وتاريخي. ففي إحدى المرات، ربما عام 2017م، طرحت عليه فكرة إجراء حوار مكتوب أو مسجل، فابتسم بتواضع، وكأنه يُؤثر العمل على الحديث. ورغم تحفظه، بدأت بجمع بعض المعلومات من خلال أسئلة غير مباشرة. فحين سألته ذات مرة عن الأخوين إبراهيم وجرجس الجوهري ومسقط رأسهما في قليوب، عرّج الحديث إلى مسقط رأسه هو الآخر، في ميت كنانة، فتكشفت ملامح من نشأته الروحية والوطنية. وبعدها، وأثناء بحثي في مجلة "الكرازة"، عثرت على خبر موجز عن رسامته راهبًا عام 1978م، فأرسلته له، فأجابني متسائلًا عن مصدره. ومن خلال هذه الخطوة تمكّنا من توثيق تاريخ رهبنته بدقة.
وفي زيارة أخرى للدير، حدّثني نيافته عن أخيه الأكبر، الذي التحق بالكلية الإكليريكية بالقاهرة، وكان له الفضل في تشجيعه على أن يسلك ذات الطريق. وبالفعل، التحق هو نفسه بالكلية عام 1967م، وتتلمذ فيها على يد مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث، الذي كان أحد أساتذتها آنذاك. وفي لقاء آخر، ذكر لي نيافته أنه التحق بالرهبنة في سن متأخرة نسبيًا، ومن خلال التواريخ التي جمعناها، ثبت أنه كان يبلغ من العمر 36 عامًا عند دخوله الدير. وهكذا بدأت تتشكّل معالم سيرته لا كمادة أرشيفية، بل كشهادة حيّة عن خادم لله عاش الرهبنة في قلب أوروبا، وأرسى نموذجًا متفردًا لرعاية الجاليات القبطية. وللأسف، نُشرت السيرة الذاتية لاحقًا في بعض المواضع وتم اقتباسها دون الإشارة إلى المصدر أو الاعتراف بالجهد المبذول في توثيقها. وهو جهد لم يكن يسيرًا، استند إلى لقاءات شخصية، وبحث أرشيفي، وتقصٍ دقيق امتد لسنوات.
وخلال هذا المسار، تمكّنا بعون الله من جمع سيرة نيافته كاملة: من مولده ونشأته، إلى مراحل تعليمه وعمله، فالتحاقه بالكلية الإكليريكية، ثم دخوله إلى الدير، وأخيرًا سنوات خدمته المثمرة في ألماني.
صفحات من سيرة نيافته:
وُلد نيافة الأنبا ميشائيل باسم سامي سلامة حنا يوم 6 أغسطس 1942م، بقرية ميت كنانة التابعة لمركز طوخ بمحافظة القليوبية. تخرّج في كلية التجارة – جامعة الإسكندرية، وعمل بعد تخرجه في البنك المركزي المصري.وفي عام 1967م التحق بالكلية الإكليريكية بالقاهرة، حيث تتلمذ على يد قداسة البابا شنودة الثالث حين كان لا يزال أسقفًا للتعليم. وفي أواخر السبعينيات، التحق بدير البراموس ببرية شيهيت، حيث رُسم راهبًا يوم 1 يناير 1978م باسم الراهب ميخائيل البراموسي، في عهد قداسة البابا شنودة الثالث. وكان يشرف على الدير آنذاك القمص يوحنا البراموسي (1947–2000م)، الذي اختاره مع الراهب آبرآم البراموسي لإرسالهما إلى ألمانيا. وهناك، أسّسا نواة دير الأنبا أنطونيوس بكريفلباخ، أول دير قبطي في قارة أوروبا. وبمرور الوقت، أنشأ نيافته إلى جوار الدير الكلية الإكليريكية، ومكتبة كنسية متخصصة، ومقابر لخدمة الأقباط في المهجر.
وفي أواخر الثمانينيات، رُسِم قمصًا، ثم أسقفًا على جنوب ألمانيا ورئيسًا للدير يوم 16 يونيو 2013م بيد قداسة البابا تواضروس الثاني (البطريرك الـ118).لم يتوقف عطاؤه: رسم الكهنة، اشترى كنائس، استأجر أماكن لإقامة القداسات، أسّس مدارس الأحد، وشارك في تأسيس مجمع الكنائس الشرقية الأرثوذكسية بألمانيا عام 2022م. كما شارك في المؤتمر الثاني لأساقفة أوروبا في أبريل 2023م.وقد رحل عن عالمنا الفاني في يوم السبت 5 أغسطس 2023م / 29 أبيب 1739 ش، عن عمر ناهز 81 عامًا، ودُفن بجوار منارة الدير الذي بناه وخدم فيه حتى أنفاسه الأخيرة.
وأخيرًا، تبقى حياة نيافة الأنبا ميشائيل نموذجًا متفرّدًا لرهبنة صامتة، لكنها ناطقة بالعطاء، ولخدمة نسجت خيوطها بين الصحراء المصرية وأرض المهجر، فكانت رسالته جسرًا روحيًا يربط القلوب بالسماء. لم تكن الذكرى مجرد مناسبة عابرة، بل هي دعوة للتأمل في أثر إنسان عاش لله، وخدم الكنيسة بروح ملؤها الإخلاص، وترك خلفه ديرًا، وكهنة، ومؤمنين، وسيرة ناصعة تستحق أن تُروى وتُحفظ بعناية في سجل التاريخ الكنسي.