بقلم: أيمن فايز
فنانٌ تشكيلي وكاتبُ إيقونةٍ بيزنطية
هل يَرحَلُ الفَنُّ حين يَغيبُ الجَسَد؟
سؤالٌ يُشبهُ الوَجعَ الذِي لا يُبكَى عليه،
ويصيرُ وجعًا وجوديًّا عندما نَنطِقُ: زياد الرحباني.
لم يكن فنانًا عاديًّا،
بل كانَ نُبرَةَ وطنٍ تَجرحُنا حين نصمُت.
هو لَيس "ابنَ عاصي وفيروز" فقط،
بل ابنُ الأرز،
وابنُ وادي قنّوبين،
حيثُ تَصمُتُ الحِجارةُ إلّا عن الله،
وحيثُ يُولَدُ الجَمالُ من العَراءِ والارتجافِ.
زياد لم يكن امتدادًا،
كانَ تمرُّدًا.
لم يُكمِّل سيمفونيةَ الرحابنة،
بل مزَّقَ النوتةَ الأولى،
وكتبَ موسيقاهُ كما تُكتبُ بياناتُ الثوّار:
بالحَنينِ المُتَّسِخ، بالصِّدقِ المُرّ،
وبحُبٍّ لا يُتقِنُ الغَزلَ، بل يُتقِنُ الصّدمة.
هو ليس سليلَ مدرسةٍ فنيةٍ فحسب،
بل سليلُ حضارةٍ لبنانيةٍ كاملة:
جبران، ميخائيل نعيمة، وديع الصافي،
نصري شمس الدين، فيلمون وهبي،
زكي ناصيف… وسواهم ممن آمنوا أنّ الفنّ ليس زينةً،
بل موقفٌ جماليٌّ ضدّ السقوط.
زيادُ فضَحَ الواقع ولم يُجمِّله.
واجهَ السُّلطةَ بالسخرية،
وأهانَ الابتذالَ بأصابعِ البيانو.
كتبَ للمقهورين لا للمصفّقين،
وغنّى للذينَ لا يَملكونَ صوتًا.
هو العازفُ الذي إذا صمتَ، صرختْ البلادُ.
كانَ يعرف أنَّ النغمةَ أعمقُ من المجد،
وأنَّ المسرحَ أصدقُ من البرلمان،
وأنَّ النكتةَ الموجعة تُربكُ الطغاة أكثر من كلّ الخُطب.
حين نرثيه، نحن لا نرثي فنانًا،
بل نرثي وجهًا شُجاعًا للحقيقة.
نرثي وضوحًا في زمن الالتباس،
وشهقةَ موسيقى ما زالت تُزعج الصمت.
لن تَجِد زيادًا في صُورِ التأبين،
بل في:
ضحكةِ طفلٍ فقير،
بيانو خَجولٍ في زاويةِ بيت،
أغنيةٍ منسية على الراديو،
أو في صرخةِ ممثلٍ يُلقي سُخريةً مؤلمةً على خَشبةٍ خاوية.
زيادُ لَم يَرحَل…
بل عادَ إلى طبيعته:
صوتًا يُربِكُ الميكروفونات،
وفنًّا لا يَعرفُ الانحناء.
"أنا ما بكتب موسيقى مشان يرقصوا،
أنا بكتبها مشان يعرفوا كيف عم نعيش."
زياد الرحباني