بقلم الأب يسطس الأورشليمى
      في لقاء الأنبا أنطُونيُوس مع ديديمُوس الضرّير، حيثُ قال: لا تحزن يا ديديمُوس، لأنك فقدت بصرك الذي يشترك فيه الإنسان مع الحيوانات والحشرات، ألا تفرح أن الله قد وهبك بصيرة داخلية تشترك فيها مع الملائكة والسمائيين!!

     إذ بلغت الكتيبة إلى قرب مدينة إسنا بصعيد مصر، وكان القائد والجُند في حالة إعياء شديد، فوجُؤا بأهل المدينة يخرجُون إلى المعسكر يحملُون لهُم الطعام والشراب، وقد ظهرت البشاشة والسرُور على وجُوههُم، التقى باخُوميُوس الجُندي الوثني بأحد الشبان الحاملين الطعام، ودار بينهما الحوار الآتي: 

مَن الذي أرسل هذا الطعام ؟! 
قال الشاب: الشعب المسيحي..

قال الجُندي: لماذا تقدمُون كُل هذا الطعام والشراب، وأنتُم لا تعرفُوننا؟ قال: من أجل إله السماء مُحب كُل البشرّية الذي أوصانا بذلك، أننا نُقدمه باسم الله وليمة محّبة، نُقدمه من كُل القلب..

     إذ سمع الجندي الوثني باخُوميُوس ذلك، حتى قرّر أن يصير مسيحياً إن عاد سالماً بعد إخماد الثُورة التي بجُوار مدينة أسُوان، جاءتهُم الإخبارية بأن الثُورة أخمدت، وأطلق سراح الجنُود، لكن باخُوميُوس لم يعد إلى بيته، بل أعتمد وتتلمذ على يدي الناسك بلامُون، وأخيراً أسس نظام رهبنة الشركة في الشرق، وعنها جاء النظام البندكيتي في الغرب..

حقاً إن مائدة محّبة، غيرت تاريخ الكنيسة، وجذبت الملايين للتمتع بالحُب الإلهي، هذه هي وصيتي أن تحبُوا بعضكُم بعضاً كما أحببتكُم، ليس لأحدٍ حُب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه.. 

راجع الكتاب المُقدس (يو12:15)..

    عُرف الأنبا أغاثُون بتدقيقه الشديد في حياته وجهاده من أجل خلاص نفسه، وحرصه على التمتع بالحياة في الرّب يسُوع، وإذ اقتربت ساعة رحيله من العالم، ظل ثلاثة أيام في صمت تام لا ينطق بكلمة واحدة ولا يتحرك، كانت عيناه مفتُوحتين، كأنه يرى أمراً ما قد سحب كُل فكره، وأحاسيسه، ومشاعره وطاقاته وجذبه نحُو السماء..

   في هدُوء دخل الأخُوة الرهبان معه في حُوار، قالُوا له: أين أنت يا أبانا  أغاثُون؟! قال: أنا واقف أمام القضاء الإلهي، على قدر طاقتي حفظت وصايا الله، إلا إنني إنسان ضعيف، من أين أعلم إن كان عملي يرضي الله أم لا، لأن حكم الناس شيء، وحكم الله شيء آخر؟!

 قالُوا له: قل لنا كلمة منفعة، فقال لهُم: أصنعُوا محبّة، ولا تكلمُوني في هذه الساعة، وللوقت أسلم الرُوح، ورأوا وجهه مملُوء بهجة وفرح كمن يُقبلّ حبيباً له، ويقُول: علمه فُوقي محبة، راجع (مز19:94؛ نش4:2)..

هب لي يا مُخلّصي الصالح أن أستعد لهذه الساعة، وأترقب لقائي معك من أجل هذه الساعة.
 كان القديس أرساني يبكي كُل أيام حياته، ومن أجلها حمل كُل مُؤمن صليبه وتبعك (مت38:10)..
رُوحك القدُوس يحملني إلى أحضانك الأبُوية، هُناك أراك وأستريح.. عند كثرة همُومي في داخلي تعزياتك تُلذّذ نفسي..

      عُرف القديس إيسيذورس، قس الاسقيط بحكمته الرُوحية، وقد تتلمذ على يديه قادة عظماء، فمتى حاربته أفكار الكبرياء بأنه صار عظيماً، كان يُرددّ، ويقُول: ألعلّي مثل أنبا أنطُونيُوس، أو مثل أنبا بموا؟

 فكانت أفكار الكبرياء تهرب منه، وإذا ما حاربته الشياطين بأفكار اليأس قائلة له: أنك ستمضي إلى العذاب بعد كُل هذه الأتعاب.. 

كان يجيبهُم: إذا مضيت إلى العذاب، فستكُونُون جميعكُم تحتي، إن لصاً ورث الملكُوت، وهكذا كانت نفسه تستريح، يقُول لها:
لماذا تستكبرين يا نفسي، هل صرت كبُولس الرسُول الذي دعا نفسه أول الخطاة؟! أم صرت كأحد الشهداء الذين بذلوا نفُوسهُم من أجل الرّب؟!

هُوذا ذراعا الرّب مبسُوطتان لكِ، وأحضان الآب تترقبان مجيئك.. 

     أنت يارّب هُو الغالب واهب النُصرة، لتفرح وتتهلّل نفسي وسط الجهاد، فإن أكاليل المجد تنتظر الغالبين، وكما قال الرسُول: قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وُضع لي إكليل البرّ  الذي يهبه لي في ذلك اليُوم، الرّب الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبُون ظُهوره أيضاً، كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير ادخل إلى  فرح سيدك، رجع (مت21:25؛ 2تي7:4؛ رؤ10:2).. 

 عاش أنبا مُوسى الأسود قبل قبُوله الإيمان في الخطية، يُمارس الفساد في أبشع صُورة، وبعد قبُوله الإيمان وعماده كانت الشهُوات تُهاجمه من حين إلى آخر بطريقة عنيفة، ذهب يوماً إلى الأنبا إيسيذورس وشكا له حاله، وإذ تحدث معه ليملأه بالرجاء، ويُشجعه على الجهاد الرُوحي وطلب منه أن يعُود إلى قلايته، فقال له: لا أستطيع ذلك يا أبي!!

    طلب منه أن يصعد معه إلى سطح الكنيسة، ثم قال له: أنظر إلى الغرب فرأى شياطين كثيرة يتحفزُون للحرب والقتال، ثم قال له: أنظر إلى الشرق، فنظر ملائكة كثيرين يُمجدون الله، ثُم قال الأنبا إيسيذورس: الذين رأيتهُم في الغرب يحاربُوننا، أما الذين رأيتهُم في الشرق فيعاونُوننا، ويحفظُوننا من الشرّير.. 

ألا نتشّجع، ونتقُوى إذن، مادام ملائكة الله يحاربُون عنا؟! فتهلّلت، وفرحت نفس الأنبا مُوسى، وعاد إلى قلايته يُسبح ويُمجد الله..

العدُو لن يكف عن محاربتي حتى ألتقي بك وجهاً لوجه، ولن تتوقف ملائكتك عن مساندتي، مَن سيفصلنا عن محّبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جُوع أم عُري أم خطر أم سيف؟ إننا من أجلك نُمات كُل النهار قد حُسبنا مثل غنمٍ للذبح، ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا راجع الكتاب المُقدس (رو35:8-39)..

  إذ أنتشر خبر رهبنة أنبا أنطُونيُوس في العالم، سمع عنه الفلاسفة، فقرر بعضهُم أن يلتقُوا به ليتعرفُوا على فلسفته في الحياة..

ذهبُوا إلى الصحراء الشرقية بمصر، وصعدُوا الجبل حتى بلغُوا المغارة التي يعيش فيها، فوجدُوا المغارة تكاد تكُون بلا أثاث سُوى حصيرة صغيرة لا تُوجد بها مكتبة ولا مخطُوطات، ليقضي الراهب وقته منشغلاً بها، وبلا أي أدُوية، فقالُوا له: كنا نتُوقع أننا نرى إنساناً حازماً جاداً لا يعرف البشاشة ككُل الفلاسفة الذين اختارُوا لأنفسهُم حياة العزلة..

    قال الأنبا أنطونيوس لهُم: إني أشعر بالجدية والحزم مع نفسي، لكن جديتي تملأ قلبي فرحاً ونفسي تهليلاً، إذ لا ينقصني شيء، قالُوا: كيف لا تُعاني من الشعُور بالعزلة، وليس لديك طعام وفير، ولا أدُوية تسندك في مرضك، ولا كتب للتعزية والتسلية وأنت تعيش في مغارة بمفردك..

قال القديس: إني لا أعيش بمفردي في هذه المغارة، فمسيحي الذي يحبني يسكن في داخلي، وُوجُوده يملأ حياتي فرحاً، ويُشبع كُل احتياجاتي إني أسعد إنسان على وجه الأرض، لأنه سرّ سعادتي وتهليل قلبي وفرحي وسرُوري..

أكشف عن عيني يا الله، فأراك في داخلي، فطريق السماء يُقاس بالرغبة العاملة، والإرادة الحرة، وليس بالأميال التي تقطعها، والمنازل هُناك تُبنى وتُقام طبقاً لكُل عمل فيه حُب، وخير، وحقّ، وجمال..

    عُرف عن الأنبا باخُوميُوس، أنه كثيراً ما كان يرى رُؤى سماوية، كما وهبه الله عمل آيات وعجائب، تقدم إليه بعض الرهبان يسألونه قل لنا يا أبانا: 
ما الذي يمكننا أن نعمله لنحظى بالقُدرة على عمل المعجزات أجابهُم بابتسامة قائلا: إن شئتُم أن تسعُوا سعياً رُوحياً سامياً، فلا تطلبُوا هذه المقدرة، لأنها مشُوبة بشيء من الكبرياء والتفاخر، بل اسعُوا لكي تظفرُوا بالقُوة التي تمكنكُم من إجراء العجائب الرُوحية العظيمة لدى الله..

إذا رأيتُم عابد وثن، وأنرتُم أمامه الطريق إلى معرفة الله، تكُونُون قد أحييتُم ميتاُ، وإذا رددّتم أحد المُبتدعين إلى الإيمان، تكُونُون قد فتحتُم عيني أعمى، وإذا جعلتُم من البخيل كريماً، تكُونُون قد شفيتُم يداً يابسة وإذا حولتُم الكسلان إلى إنسان نشيط، تكُونُون قد منحتُم الشفاء لمقعد مفلُوج وإذا حولتُم الغضُوب إلى إنسان وديع، تكُونُون قد أخرجتُم شيطاناً..

 هل هُناك شيء يطمع الإنسان أن يناله أعظم من هذا؟! 

هكذا كان الأنبا باخُوميُوس أب الشركة لا يرتبط بالمعجزات الأرضية، بل بخلاص النفس وتمتع الجميع بالمجد الأبدي..

ماذا أقدم لك يارّب؟! خلاص نفس واحدة في عينيك يا الله أفضل من تقديم العالم كُله!! لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كُله وخسر نفسه؟ أو ماذا يُعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟!