عادل نعمان

دعنا نتجول معًا عزيزى القارئ، وأثبت أن أحكام القرآن الكريم وتشريعاته كان الرسول والصحابة يتعاملون معها وكأنها مدنية الغايات والمقاصد، وتساير ظروف الناس وأحوالهم، وتتوافق مع ما تفرضه قواعد السياسة التى يجب مراعاتها، ولم يقفوا منها ثابتين جامدين، بل كانوا يدورون حولها ويتلمسون منها ما يخفف وما يلطف وما يوقف التنفيذ، بالضبط كما تسمح به القوانين الوضعية من استثناءات والأخذ بأقصى العقوبة أو أدناها، واطمئنان القاضى لارتكاب الجريمة شخصيًّا حتى لو تيقن منها غيره، وهذا دليل على مدنية هذه الأحكام، ويستدعى الأمر التعامل معها كما نتعامل مع أحكام القانون الوضعى، ولنا فى هذا مثالان فى هذا المقال، الأول: عن حكم السرقة والحد الذى أقره الإسلام وهو قطع اليد اليمنى حتى الكف، والثانى: أحكام الموالى والعبيد.

 

أما عن الأول: وهو حد السرقه، قطع يد السارق كان يُعمل به قبل الإسلام، وأول من حكم به الوليد بن المغيرة وكان يعمل قصابًا «جزارًا»، ووافق الإسلام على بقاء الحكم.

 

وكان أول سارق قطعت يده فى الإسلام هو الخيار بن عدى بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد بن مخزوم، «وربما قد اقتبس الحكم من أحكام التوراة والتى كان الحد عند اليهود قطع يد السارق اليمنى كاملة، (وكانت عقوبة من يسرق فى مصر هى دفع غرامة تصل إلى الضعفين أو ثلاثة أضعاف الشىء المسروق)» هذا للعلم «وقد وافق الإسلام عليها واعتمدها عقوبة شرعية. تعال عزيزى إلى موضوعنا فى ثلاث وقائع مختلفة والسرقة فيها واضحة إلا أن التعامل مع الحدث كان سياسيًّا توافقيًّا فى كل مرة.

 

الحادثة الأولى: يحكى أن صفوان بن أمية لما نام فى الكعبة بعد الطواف من شدة التعب، ووضع رداءه تحت رأسه، وسرقه أحدهم من تحته، وأتوا به إلى النبى وسأله فأجاب واعترف بسرقة الرداء، وأمر الرسول بقطع يده، فإن العقوبة كانت قاسية ولا تتناسب مع تفاهة المسروق، حتى تعجب صفوان «صاحب الشأن» حين قال (ما كنت أريد أن تُقطع يده فى ردائى) وهو رأى صواب حين رأى صفوان أن العقوبة أقسى مما يجب ولا تتوافق مع الجرم، إلا أن تغليظ العقوبة فى وقت من الأوقات يكون له بعد سياسى لضبط المجتمع، وحين تتفشى الظاهرة تكون العقوبة أشد من الجرم حتى تعود الأمور إلى نصابها ويأمن الناس شرها، وهذا ما يأخذ به القضاة، وهو أمر يتنافى مع مبدأ «العدل المطلق».

 

الحادثة الثانية: (التغاضى عن الغلول فى الغزوات) الغلول فى اللغة له معنيان: المعنى الخاص هو الأخذ من الغنيمة سرًّا قبل قسمتها، أما المعنى العام فهو مطلق الخيانة فى أى أمانة أو مال، ولقد واجه النبى مشكلة فى الغزوات، وهى سلب المقاتلين من المسلمين جزءًا من الغنائم وإخفاؤها قبل تسليمها وتوزيعها، والمعلوم أن النبى لم يطبق حد قطع يد من سرق وأغل من السارق، والأرجح أن هذا قرار سياسى اتخذه النبى حتى لا تضعف عزيمة المقاتلين، وراعى فيه بعدًا سياسيًّا معتبرًا، وجاء فى الأثر (وكان الرسول يجد الغلول فى رحل الرجل فلا يعاقبه، لكنه يعنفه ويؤنبه ويؤذيه ويعرف الناس عنه). وهناك حكاية عن العبد «مدعم» أحد المقاتلين الذى سلب لنفسه من الغنائم ووضعها فى راحلته، ولم تقطع يده، وقال بسر بن أبى أرطأة: «نهانا الرسول عن القطع فى الغزو».

 

الحادثة الثالثة: قصة المرأة المخزومية، ولم تقطع الكتب هل أقيم عليها الحد، أو عفا عنها النبى، فى رواية لم يقبل فيها شفاعة وفى أخرى تفيد بأن النبى قبل فيها الشفاعة وعفا عنها، والحكاية نقف فيها عند وقوع الجريمة ثم (نعتبر أن الحكم هو العفو) ونأخذ به للتدليل على صدق ما نقول، وعلى الطرف الآخر أن يستدل على كذب ما يدعى، وهو أمر محير فيما يتناقله الرواة، والحكاية أن امرأة من بنى مخزوم وكان شأنها يهم العرب، كانت تستعير الأمتعة من الناس ثم تجحدها (تنكر استعارتها) حتى وصل أمرها إلى النبى، والحكايات كلها تؤكد أن النبى قد أصر على إقامة الحد عليها رغم وساطات العرب، وأوكلوا امر وساطتهم إلى أسامة بن زيد لمكانته وليشفع لها عند النبى، ومعلوم للجميع رد النبى وخطبته فى هذا الشأن حين قال «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». إلى هنا والرواية واحدة، واختلفوا حول هل أُقيم الحد أو العفو، وقلنا نأخذ بالعفو.

ونضيف إلى الروايات السابقة موقف عمر من تعطيل الحد فى عام المجاعة، فلو كان الحكم مطلقًا ما تعطل فى عهد عمر، وما تغافلوا عنه عند الغلول، وما كان بقسوة سرقة الرداء التافه هذا.

ما نريد أن نصل إليه أن الأحكام القرآنية كانت بين كل هذا وذاك قوامًا، وتستوجب إعادة النظر، واعتبار البعد الإنسانى والسياسى أهم الأبعاد، حتى وصل أمر هذا الحد إلى التعطيل الدائم الكامل، والاستغناء عنه بقانون وضعى والبقية تأتى، وبالتأكيد فإن الله بصير بالعباد.

 

(الدولة ألمدنية هى الحل)

نقلا عن المصرى اليوم