حمدي رزق
لم يطاوعنى القلم لأكتب ورد الصباح، مقالى فى «المصرى اليوم»، مزاج معتل، كدت أعتذر، وهذا ليس من طباعى، عادة أكتب تحت ضغط الحرارة اللافحة والرطوبة الخانقة، ولا يستبدّ بى التعب، ولا أركن للراحة، وكما يقول أبوالعلاء المعرى: «تَعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْجَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ فى ازْديادِ».

وسوس شيطانى الرجيم بأن أجرب الكتابة الاصطناعية، «شات جى بى تى»، أبحث عمن يكتبنى، يريحنى، لعل وعسى يخفف عنى حرور الكتابة فى صيف الهجير، ويمنحنى مقالا شيقا جاهزا دون شقاء، وما إن دلفت إلى الذكاء الاصطناعى (AI)، حتى جفلت.. بالأحرى فزعت، وكأن عفريتا ظهر إذ فجأة يتلبسنى، يكتبنى، نفس المفردات، الجمل، التشبيهات، قاومت، حاولت صرفه تملكنى من عنق قلمى، أغلقت التابلت على إصبع العفريت الذى كاد يخترقنى من الوريد إلى الوريد.. واستعذت بالله من الشيطان الرجيم.

مثلى مسكون بحكايات العفاريت منذ الطفولة، ولاتزال تصحبنى العفاريت سيما فى الأماكن المظلمة، رغم أننى لست ممن يخافون العفاريت، ويقينى أن ما عفريت إلا بنى آدم شقى حبتين.

سرحت فى ملكوت الله، تخيلت هناك من يكتبنى بالحرف، من يتلبسنى دون إرادة منى، من يقرأ ذاكرتى، ويتغذى على معجمى، ويمسك بحروفى، ويلعب بأوتارى، يكتبنى رغما عنى..

قادر ولا يقدر على القدرة إلا ربنا، هناك من هو قادر على إحياء حروف الموتى، يكتب المقفع، والمعرى، وأبونواس، ونجيب محفوظ، وهيكل.

يكتب كل هؤلاء بصنعة واحترافية، يكتبهم كأنهم لايزالون يكتبون الرواية ويقرضون الشعر، ويدبجون المقالات، يصعب التفرقة وبيان الفروق، نفس البصمة، البصمة الأدبية.

فزعت من اليوم التالى الذى ينتظر البشرية على قارعة الألفية الثانية، اليوم الذى تكتب الآلة كتابة البشر، بحروف وأفكار البشر، وقد تتفوق عليهم، تكتب ما لم يكتبوه وموقع بأسمائهم، تندثر الفروق، وتتلاشى المواهب، وتصب جميعا فى قالب الذكاء الاصطناعى.

فى مثل هذا عالم افتراضى (فرط ذكوى)، هل هناك لاتزال فرصة لتفرد نجيب محفوظ، أو لعمق هيكل، أو سلاسة إحسان عبدالقدوس، هل هناك مساحة لإبداع وتفرد وموهبة المازنى، هل هناك نجوم ستلمع فى سماء الإبداع مجددا.. حتى المسرح والسينما والغناء صار ذكيا آليا ليس بشريا!!.

أخاف على العلماء ومنهم، وخوفى على المبدعين أشد، العلماء أخشى يجنون جناية على المبدعين، عندما طوروا هذه الآلة العجيبة وكأنهم فتحوا صندوق باندورا (يحوى كل شرور البشرية).

جناية العلماء حضّروا العفريت، أخشى لن يقدروا على صرفه، وخوفى رعبى من تفوق الآلة الذكية على البشر الأذكياء، أن تهيمن على الدماغ البشرى، تسيطر عليه إبداعا بعد أن هيمنت عليه علميا وتكنولوجيا.

شات جى بى تى (المُحوّل التوليدى المُدرَّب مُسبقًا) أخشى سيقضى تماما على الإبداع البشرى، مقبرة الإبداع، يئد المواهب، شات جى بى تى يهيمن، يسيطر، سرعان ما يستحوذ، لا حدود لقدراته، أخشى تجاوز قدرات البشر المحدودة، مجموع الذكاء البشرى فى شات، خلاصة الذكاء البشرى فى محرك إلكترونى واحد، سيجرى تعميده لاحقا الموهبة الأعظم فى تاريخ البشرية.
نقلا عن المصري اليوم