هاني صبري - الخبير القانوني والمحامي بالنقض
في رحابِ الديمقراطيّةٍ، تتهيّأ مصرُ هذه الأيام لاستحقاقٍ دستوري مفصليٍّ هو انتخاب مجلس الشيوخ للفصل التشريعي الثاني (2025–2030).وهي لحظات فارقة ، تتجلّى قيمةُ الصوت بوصفه سلاحًا حضاريًّا يُصوِّب مسار الوطن ويُحصِّن مستقبله.
وبينما تُشرف «الهيئة الوطنيّة للانتخابات» إشرافًا قضائيًّا كاملًا، وفق جدول زمني محدد.
وهنا يبرز سؤالٌ جوهريّ: كيف تُسهِم الرقابةُ الدوليّةُ في تعزيز نزاهة الانتخابات من دون مساسٍ بالسيادة الوطنيّة؟ وماهيّةُ الرقابة على الانتخابات … ولماذا الدوليّة؟
ان الرقابة على الانتخابات هي منظومةُ إجراءاتٍ موضوعيّة ومحايدة يقوم بها أشخاصٌ مُكلَّفون رسميًّا بمتابعة جميع مراحل العمليّة الانتخابيّة من قيد الناخبين وحتّى إعلان النتائج للتحقّق من خلوّها من التزوير أو التلاعب.
أمّا الرقابة الدوليّة فتهدف إلى إطلاع المجتمع الدولي على مدى التزام الانتخابات بالمعايير الدولية للديمقراطيّة وحقوق الإنسان، وليس إلى إملاء إرادةٍ خارجيّة. وهي آليّةٌ حديثة نسبيًّا، بزغ نجمها عقب الحرب العالميّة الثانية مع تنامي دور الأمم المتّحدة واتّساع موجة الديمقراطيّة في القارات كلّها.
وماهي المعايير الدولية لتلك الرقابة ؟
توجد ثلاثة معايير دوليّة لا غنى عنها.
1. الاقتراع العام والشامل: ضمان حقّ الترشّح والتصويت لكلّ مواطنٍ بلا تمييز.
2. المساواة في الصوت: توزيع الدوائر بحيث يتماثل عدد السكّان فيها ما أمكن، فيتعادل وزنُ الصوت الانتخابي.
3. الانتخاب الحرّ والسريّ: حمايةُ حرّية الناخب في الاختيار، وتأمينُ سرّيّة الاقتراع، والالتزام الحرفي بإعلان النتائج.
إنها معاييرُ تستند إلى المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) التي تُقرّ بأنّ «إرادة الشعب هي أساسُ سلطة الحكم».
وماذا عن الفوائد السياسية والقانونية لهذه الرقابة ؟
الفوائد السياسيّة والقانونيّة
• ترسيخ الشرعيّة: حين تُكتسب السلطة عبر انتخاباتٍ مراقَبةٍ ومعترفٍ بنزاهتها، تخفّ النزاعات غير الديمقراطيّة على الحكم.
• تعزيز الحكم الرشيد: المراقبةُ ترفع منسوبَ الشفافيّة والمساءلة أمام الرأي العامّ.
• تطمين المستثمرين والشركاء: انتخاباتٌ نزيهة تخلق بيئةً سياسيّةً واقتصاديّةً آمنة.
• ترقية صورة الدولة خارجيًّا: الاعترافُ الدولي بنزاهة الانتخابات يرفع رصيد مصر الدبلوماسي.
بالتأكيد السيادةُ الوطنيّة … خطٌّ أحمر.
تتردّد تساؤلاتٌ حول ما إذا كانت الرقابة الدوليّة تنتقص من السيادة. والجواب في تقديري أنّها رقابةٌ لا إشراف؛ فصناديقُ الاقتراع تبقى تحت ولاية القضاء المصري بالكامل ، وتعملُ البعثاتُ الأجنبيّة المصرح لها بالرقابة وفق قواعد واضحة منها :
• احترامُ قوانين الدولة المضيفة وهيئاتها الانتخابيّة.
• الامتناعُ عن تلقّي تمويلٍ من أيّ حكومةٍ تجري فيها المراقبة.
• الشفافيّة المطلقة في الإعلان عن تركيبة البعثة ومصادر تمويلها وتقاريرها.
• عدمُ التدخّل في مجرى العمليّة أو التأثير على إرادة الناخبين.
بهذه الضوابط تغدو الرقابةُ الدوليّة رافدًا للسيادة لا ندًّا لها، إذ تُظهر التزام الدولة طوعًا بأرقى المعايير، وتترك للشعب الكلمةَ الفصل.
وماهي مدوّنةُ سلوك المراقبين؟
اعتمدت المنظماتُ الدوليّةُ والأمميّة مدوّنةً تفرض على المراقبين:
• النزاهةَ والتجرُّدَ من المصالح الشخصيّة أو الحزبيّة؛
• الإفصاحَ العلني عن الولاية والمدة والتقارير؛
• التزامَ حقوق الإنسان والتعاونَ البنّاء مع السلطات؛
• الالتزامَ السرّيّةَ عند الاقتضاء، واحترامَ خصوصيّة الناخبين.
حيث يأتي استحقاقُ انتخابات مجلس الشيوخ المرتقب في ظلّ أوضاعٍ إقليميّة مضطربة. وقد برهنت التجارب أنّ الاقتراع الحرّ هو صمّام أمانٍ ورافعةُ استقرار. إنّ إشادة المجتمع الدولي المتكرّرة بنزاهة الانتخابات المصريّة إنّما تعود لالتزام مصر بآليّات المراقبة وبتطوير قدرات الهيئة الوطنيّة للانتخابات.
ويبقى الشعبُ، مصدرُ السلطات جميعًا، صاحبَ الكلمة العليا. ومن هذا المنبر ندعو كلَّ مَن يملك حقّ التصويت إلى التوجّه بحماسةٍ ومسؤوليّة إلى اللجان يوم الاقتراع لاختيار مَن يراه الأجدر بتمثيله. المشاركةُ حقٌّ وواجبٌ دستوريّ، وهي الضامنُ الأوّل لأن تعكس النتائجُ إرادةَ المصريّين وتطلّعاتهم، وتُقدّم للعالم مشهدًا ديمقراطيًّا يليق بمكانة مصر وريادتها.
وختاماً ليست الرقابة الدوليّة ترفًا سياسيًّا، بل آليّةٌ متقدّمة لترسيخ قيم النزاهة والحوكمة. وعندما تُمارَس وفق مبادئ الشفافيّة واحترام سيادة الدول، تُصبح مكسبًا للشعوب والحكومات على السواء. ومع اقتراب انتخابات مجلس الشيوخ، تمتلك مصر فرصةً جديدة لتأكيد ريادتها الإقليميّة في مسيرة التحوّل الديمقراطي، ولتثبت للعالم أنّ السيادة الحقيقيّة تنبع من صندوقٍ شفافٍ وصوتٍ حرّ.