بقلم الأب يسطس الأورشليمى
إن كنت تتألم من أجل نفسك، فحتى الخليقة تتألم بسببك، لأنه إن كانت الخليقة التي أوجدت بكاملها لأجلك هي على رجاء، فكم بالأولى يليق بك أن تكُون على رجاء، يا مَن من خلالك ستتمتع الخليقة بتلك الخيرات؟!
أن الخليقة التي تئن على رجاء، هي جماعة السمائيين الذين كمَن هُم يئنُون من أجل الإنسان ليفرحُوا بتمتعه بالبنُوة، وكما قال السيدالمسيح له المجد : هكذا يكُون فرح قدام ملائكة الله بخاطيء واحد يتُوب ( لو10:15)..
إن كانت الخليقة التي تتمتع بالخيرات من أجلنا إذ سقطت تحت الفساد بسببنا تترجى مجدنا كأولاد لله لتلبس عدم الفساد، فإنها في هذا الانتظار كمن في حالة ولادة مُستمرة تنتظر جديداً، إذ يقُول: فإننا نعلم أن كُل الخليقة تئنّ وتتمخّض معاً إلى الآن، هذا حال الخليقة التي أوجدت من أجلنا، فكم بالحريّ يليق بنا أن نئن نحنُ أيضاً، ونتمخض بالآلام من أجل تمتعنا بكمال مجد البنوة لله؟! ليس هكذا فقط، بل نحنُ الذين لنا باكورة الرُوح نحنُ أنفسنا أيضاً نئنّ في أنفسنا، متُوقعين التبنيّ فداء أجسادنا (23)..
أن باكُورة الرُوح الذي نلناه يدفعنا لهذا الأنين الداخلي المملُوء رجاءً هذه الباكُورة عظيمة للغاية، لا تقف عند غفران الرُوح لخطايانا، وإنما أيضاً تهبنا البرّ والتقديس، وقد ظهرت هذه الباكُورة في العصر الرسُولي بإخراج الشياطين، وإقامة المُوتى خلال ظلهُم وثيابهُم (أع15:5؛ 12:19)، فإن كانت هذه هي الباكُورة، فماذا يكُون كمال الرُوح ؟!
إننا نتُوقع كمال مجد البنُوة بقيامة الجسد من الأمُوات، لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت عدم مُوت (1كو53:15؛ في21:3) الذي سيُغيّر شكل جسد تُواضعنا ليكُون على صُورة جسد مجده، بحسب عمل استطاعته أن يُخضع لنفسه كُل شيٍء، إذاً ما نلناه كباكُورة الرُوح إنما يفتح باب الرجاء للإنسان ليُجاهد بالصبر حتى يبلغ كمال الرُوح الذي يمجّده بكليته نفساً، وجسداً، ورُوحاً على مستُوى أبدي..
قال: لأننا بالرجاء خلصنا، ولكن الرجاء المنظُور ليس رجاء، لأن ما ينظره أحد كيف يرجُوه أيضاً؟! ولكن إن كنا نرجُو ما لسنا ننظره فإننا نتوقعه بالصّبر (24-26)، فماذا يعني بالرجاء خلصنا؟!
أي لا نطلب كُل شيء لنا في هذه الحياة، وأن يكُون لنا رجاء أيضاً، مُؤمنين أن ما وعدنا به الله يحققه لنا، بهذا نحنُ خلصنا، فإن فقدنا الرجاء نفقد كُل ما نلناه، ألم تكن خاضعاً لخطايا بلا حصر؟
ألم تكن تحت الحكم؟ ما الذي خلصك إذن ؟!!
الرجاء في الله وحده، وثقتك من جهة مُواعيده وعطاياه، فإنه ليس لك شيء آخر تقدمه له، إن كان هذا الذي خلصك، فلنتمسك به الآن أيضاً، فمَن قدم لك بركات عظيمة لا يمكن أن يخدعك، لقد وجدك ميتاً ومُحطماً وسجيناً وعدواً، فجعلك صديقاً، وابناً، وحراً، وباراً، ووارثاً معه..
هذا الطريق الذي هُو الرجاء خلصك من البداية، ويُشبه الرجاء بالبيضة التي تحمل في داخلها حياة، تقدمها خلال دفء الضيقات والآلام أنها بيضة وليس بعد كتكُوت مغلفة بقشرة، لكن لا تنظر إليها هكذا، بل أنتظر في صبر ولتجعلها في دفء، فستقدم حياة، وعلى المُؤمن أن يلتزم ويُمارس دُوراً إيجابياً باحتماله الأتعاب الكثيرة، والآلام بصبر من أجل رجائه غير المنظُور، هذا ما يؤكده الرسُول بُولس على الدوام وهُو:
إبراز عمل النعمة الإلهية المجانية، لكن دُون سلبية من جهة المُؤمن، وأن الصبر هُو: عطية إلهية نقتنيها بالله نفسه، إذ يسندنا الرُوح القُدس نفسه في جهادنا، كذلك الرُوح أيضاً يُعين ضعفاتنا..
ولكن الرُوح نفسه يشفع فينا بأنّات لا ينطق بها، فالرُوح هنا الذي يشفع فينا، إنما يعني القلُوب المُلتهبة بالرُوح القُدس، خلال مُوهبة الصلاة فالرُوح يقترح على النفُوس المُقدسة ما تُصلّي به من أجل أخُوتهُم، فقد صلّى بُولس طالباً أن يرى رُوما، ومُوسى مشتهياً رُؤية أرض كنعان، وطلب أرميا من أجل اليهُود، وتشفع إبراهيم عن أهل سدُوم، ومع ما لهذه الصلُوات من قيمة كبرى، تكشف عن قلُوب مُقدسة محبة للآخرين، ولكن مهما بلغت قداسة الإنسان يحتاج إلى عُون الرُوح ليرشده..
وهذا ما حدث له، عندما صلّى أن ينزع منه ملاك الشيطان الذي سمح به الرّب من أجل نفعه، فقال: من جهة هذا تضرّعتُ إلى الرّب ثلاث مرات أن يُفارقني، فقال لي: تكفيك نعمتي، لأن قُوتي في الضعف تُكمل..
( تك23:18؛ تث26:3؛ إر1:15؛ 2كو8:12)..
حاجة المُؤمن لإدراك خطة الله الخلاصية الفائقة، فهُو لا يغير مجرى الأحداث، والظرُوف حسب أهُوائنا الشخصية، إنما يحّول كُل الأمُور بلا استثناء لبنيان نفس المُؤمن، فتعمل لمجده في كُل الأحُوال..
يليق بالمُؤمنين ألا يختارُوا لأنفُسهُم الحياة حسب فكرهُم، حاسبين أن هذا نافع لهُم، إنما يقبلُون ما يقترحه الرُوح القُدس، لأن أمُوراً كثيرة تبدُو للإنسان نافعة، وتسبب له مضاراً كثيرة، (2كو7:12-10)، لنترك كُل الأمُور في يديّ الرُوح ليحُولها لبنيان نفُوسنا، فكُل الأمُور التي تبدُو مؤلمة تعمل لخير الذين يحبُون الله، أما الذين لا يحبُونه فحتى الأمُور التي تبدُو صالحة ومُقدسة تعمل ضدهُم إن لم يعُودُوا إلى الرّب بالحُب.. لان كُل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله.