بقلم الأب يسطس الأورشليمى
ولد القديس يوستينوس في( شكيم ) وهي مدينة نابلس الحالية بالاراضى المقدسة في حوالي سنة 100 ميلادية، كان أبوه برسكوس Priscos وجده باخويوس (باكيوس) Baccheios وثنيين من أصل يوناني، وقد تربى في ظل الديانة الوثنية. ويروي بنفسه في كتابه "حوار مع تريفون" كيف انتقل من الفلسفة إلى المسيحية، 

وكان ذلك في مدينة أفسس في عهد هادريان. ثم طاف العالم على طريقة فلاسفة عصره مبشرًا بإيمانه، وسكن في روما في عهد الإمبراطور أنتونان، حيث استشهد في زمن ولاية يونيوس رستكوس Junius Rusticus، أي فيما بين سنة 163 وسنة 167 م.

إلا أنه منذ حداثته، كان يميل إلي الفكر التأملي والبحث عن الألوهية وعن مبدأ هذا العالم، لذلك لم يشبع عقله أحد الفلاسفة الرواقيين، فلم يجد عنده في هذه الفلسفة ما يشبع عقله أو يكشف له عن أسرار الألوهية.

فإنتقل الي الأبيقورية ودرسها علي أحد معلميها، إلا أن هذا المعلم اخذ يساومه علي الأجرة، فازدراه وتركه بعد فترة وجيزة.

ثم ألتقي بأحد أتباع الفيثاغورية، غير أن هذا الفيلسوف اشترط عليه أن يكون أولاً ملماًًًً بالموسيقى والهندسة وعلم الفلك فتركه أيضا، حتى أهتدى إلي أحد  تلاميذ أفلاطون، فعلق به وأحبه وتتلمذ له، فأخذ عنه علم معرفة الإله، وعشق تلك الأبحاث الفلسفية.

وبينما كان يوستينوس غارقا في تأملاته علي شاطئ البحر الأبيض، إذا بشيخ جليل يأتي إليه ويباحثه ووضح له أن الفلسفة الأفلاطونية نفسها ناقصة, فسأله يوستينوس في لهفة وتعجب أين إذاً أجد الحق إن لم أجده بين الفلاسفة؟ فأجابه الشيخ: قبل الفلاسفة بزمان طويل عاش في الأزمان الغابرة رجال سعداء أبرار هم رجال اللـه نطقوا بروحه دعوا أنبياء قاموا بنقل ما سمعوه وما تعلموه من الروح القدس إلي البشرية، عبدوا اللـه الخالق وابنه يسوع المسيح، فأطلب أنت حتى ما تتفتح لك أبواب النور الأن إذا أردت أن تعرف اللـه حقاً، فعليك بقراءة إنجيل المسيح... قال هذا وتوارى، وعلي ذلك صار يوستينوس يلازم علماء المسيحيين ويعيش معهم ويعجب بسيرتهم الطاهرة ويلاحظ صبرهم على الضيق والشقاء حباً في مسيحهم فتلهف يوستينوس على قراءة الإنجيل وإستيعاب آياته الرائعة فتعلم المسيحية فأصبح  بطل النصرانية في زمنه.

ثم آمن بالمسيح، وأعتمد، وبدأ منذ ذاك الحين حياته الصحيحة، كما هو يقول هو عن نفسه ثم سيم كاهناً ونذر نفسه للبشارة بإنجيل المسيح ونشر فلسفته السامية التي ملكت عليه عواطفه وأخذت بمجامع فؤاده لأنها لا تترك حقيقة من حقائق اللـه والأبدية والبشرية والطبيعة ولا سر من أسرارها إلا وتوضحه وتشرحه وتعطي عنه الجواب الكامل السديد فضلاً عن أنها تعلم الخير وتنهي عن كل شر وتحمل النفوس إلى أسمى قمم الفضائل وعرف يوستينوس, أن الفلسفة الحقيقية هي الديانة المسيحية وجعل همه ورسالته في هذه الدنيا نشر تلك الديانة بالخطابة والكتابات الروحية معاً ومن ثم ذهب إلى أفسس أحد عواصم الثقافة وأتخذها مقاما له وفيها أجرى جدالاً عظيماً مع حاخام فيلسوف يهودى يدعى تريفن وهو في الأرجح المشنا الحاخام الشهير وباحثه مباحثة علانية في إلوهية السيد المسيح وكيف تمت فيه أقوال الأنبياء فأفحمه وحمل كثيرين من مستمعيه على الإيمان بالمسيح والتلمذة له ثم وضع هذا الجدل في كتاب عظيم، ويعتبر أقدم دفاع مسيحي ضد تهجمات اليهود وتكون من 142 فصلاً وقد ضاعت مقدمته والفصل الرابع والسبعون.

وسرد يوستينوس فيه كيف تطورت أفكاره ودخل في المسيحية وموقف المسيحيين من العهد القديم, فيؤكد أن الناموس جاء محدوداً في الزمان أما المسيحية فهي شريعة كل البشر وهي خالدة للأبد تبرير التعبد للمسيح الإله، يثبت أن الشعوب التي تؤمن بالمسيح وتحفظ تعاليمه هي شعب اللـه المختار. 

وهكذا فإن يوستينوس كمسيحي لم يكف عن تقديره للفلسفة بل ظل حتى بعد إيمانه يرتدي زي الفلاسفة, ولم يفعل ذلك هروباً من أن يظهر كتلميذ للمسيح, فهو يقول: " لقد طرحت جانباً كل رغبات البشرية الباطلة ومجدي الأن في أن أكون مسيحياً، ولاشئ أشتهيه أكثر من أن أواجه العالم كمسيحي"، وسافر يوستينوس مرتين إلى روما، وهناك فتح مدرسة فلسفية للدفاع عن المسيحية والتبشير بها وكان يعقد لقاءات مع اليهود والوثنيين حيثما التقى بهم، وفي هذه المناقشات أظهر صبراً وثباتاً عظيمين كما حملته حميته على كتابة رسالتين رائعتيين دفاعاً عن المسيحيين ومعتقداتهم وآدابهم وبعث بالأولى إلى الملك أنطونيوس بيوس سنة 152م والثانية إلى ابنه الملك الفيلسوف مرقس أوريليوس الذي كان قد أثار الإضطهاد من جديد ضد المسيحيين.

مثل يوستينوس أمام الوالي ومعه جمهور من المسيحيين مكبلين بالقيود، وعبثاً حاول الوالي أن يجعلهم يسجدوا لآلهة المملكة ولكن يوستينوس أجابه: " أن العدل يقضي بأن يترك الولاة أولئك الذين يرغبون في عبادة السيد المسيح وشأنهم.

فقال الوالي : وعلى ما تستند أيها الفيلسوف للتمسك بهذه الديانة؟ 
فاجاب يوستينوس : إني بعد أن ذهبت وراء تعاليم كثيرة متنوعة وخبرت طرقها, وجدت أن ديانة المسيح هي الأفضل, رغم كره أصحاب الكذب والفجور لها.

فقال رستكس : ألا تزل أيها الشقي متمسكاً بهذه الديانة مباهياً بها؟
أجاب يوستينوس: نعم وأنا حريص على إتباع تعاليمها القويمة.

قال الوالي : وما هي تلك التعاليم؟
قال يوستينوس : إننا معشر المسيحيين نؤمن بإله واحد  فقط, مبدع الكائنات المنظورة, والتي لا تقع أيضا تحت الحواس ونؤمن بأن المسيح يسوع هو ابن اللـه الذي سبق الأنبياء فتنبأوا عنه وهو معلم الدنيا بأسرها ومبشر الناس بالخلاص ولا يؤتى لعقلي المحدود ولسانى القاصر أن يفهم العظمة التي لا حد لها ويوفيها بالوصف حقها، فالأنبياء وحدهم يستطيعون ذلك لحصافة عقولهم.

فتركه الوالي والتفت إلى سائر المسيحيين وسألهم: هل أنتم أيضا مسيحيون؟
فأجأبوا : نعم نحن مسيحييون، وهنا أمر الوالي بجلدهم وقطع رؤوسهم بعد ذلك وكان ذلك في سنة 165م، وعموما أستشهد هذا الفيلسوف في سنة 166 م في عهد الإمبراطور مرقس أوريليوس بعد أن قطعت رأسه ونال إكليل الشهادة. 

وقد يكون السبب في استشهاده الهزيمة التي أوقعها بفيلسوف كاذب يدعى كريسنس Crescens علانية أمام الجمهور، وما لبث هذا الفيلسوف أن سعى به لدى السلطات، فقُدِّم يوستينوس إلى المحاكمة بتهمة المسيحية. وقُطِعت رأسه مع ستة أشخاص    آخرين.

وأهم ماتركه لنا هذا الفيلسوف من كتابات هي : 
1 ـ الدفاع الأول (68 فصلًا)  والثانى (25 فصلًا) إلى الإمبراطور أنطونيوس بيوس وأبنائه، ويرجح أنه كتبه سنة 147 م. إن لم يكن قبل ذلك. ودفاعه مليء بالشجاعة والكرامة والإنسانية. فقد كان اتجاهه في دفاعه هو عدم التوسل والخوف من القوة الغاشمة، ويقول في دفاعه موجهًا الكلام للإمبراطور أنطونيوس بيوس: "أنتم تُدعَون في كل مكان بيوس (تقيًا)، حارس العدالة، صديق الحق، وستظهر أعمالكم إذا كنتم جديرين بهذه الألقاب. ولست أقصد من وراء ذلك أن أتملقكم أو أحصل منكم على إحسانٍ ما. إني ببساطة أسألكم أن تعاملوننا بقوانين العدالة المدققة المستنيرة وليس بمجرد الحدس أو تحت تأثير خرافة تصدقونها بقصد إدخال السرور على الناس، فإن هذا يدينكم".

2 ـ حواره مع تريفون اليهودى. (142 فصلًا) عبارة عن مناظرة مع يهودي معتدل طالب للمعرفة، التقى به في مدينة أفسس. وقد استغرقت هذه المناظرة يومين. ويلاحظ أن يوستينوس في دفاعه الذي قدمه يبدو كفيلسوف يحدث فلاسفة، أما في حواره مع تريفو فكمؤمن بالعهد القديم إلى ابن من أبناء إبراهيم.

3 ـ كتاب نقد البدع.     
4 ـ رسالة ضد مرقيوس.
5 ـ رسالة ضد اليونانيين.          
6 ـ رسالة في سيادة اللـه.
7 ـ رسالة في النفس. 
8 ـ رسالة في المزامير.