نسيم مجلى
وفى ندوة الأتيلية ( 12/11/ 1989) التى عقدت لمناقشة الكتاب، وأدارها الدكتور سيد البحراوى، كان أول المتحدثين فيها الناقد والمفكر الكبيرالأستاذ محمود العالم أمين العالم الذى قرأ بحثا مكتوبا لم يقصره على مناقشة كتابى بل تناول فيه أيضا مقال الدكتور صلاح فضل " توليد الدلالة فى شعر أمل دنقل " الذى نشر فى فصول فى أكتوبر 1980 وكذلك " البحث عن لؤلؤة المستحيل" للدكتور سيد البحراوى " ثم قارن بينهم جميعا وقد نشر هذا البحث فى مجلة " الشعر" فى يوليو 1990 بعنوان : " أمل دنقل وثلاث إتجاهات نقدية ".
وكان رأيه أن كتابى قد اهتم بابراز البعد الذاتى للشاعر والبعد المعنوى المضمونى للشعر فى سياق البعد الموضوعى و السياسى والاجتماعى والبعد التراثى للرموز الشعرية وان المنهج النقدى للكتاب هو منهج التفسير والتقييم المباشر القائمين على القراءة الخارجية للنص، ومقابلته بشكل مباشر بواقع أحداث ووقائع نفسية أو سياسية أو اجتماعية دون تحليل أومعالجة للقيمة الجمالية للنص. ولهذا فمنهج الكتاب يكاد يكون امتداداً لمنهجنا فى الخمسينيات وخاصة فى أغلب تطبيقاته لا فى دعاويه النظرية.
ورداً على هذا أقول إنه بالنسبة للمنهج التفسيرى فهو منهج نقدى سائد فى كل أنحاء العالم لا يكاد يفلت منه ناقد حتى أشد المتشدقين بالبنيوية، وهذا ما أثبته محمود العالم نفسه فى حديثه عن صلاح فضل و سيد البحراوى أما قوله "إن الأستاذ نسيم إذا كان ينتقد الدكتور صلاح فضل على اقتصاره على الجانب الشكلى. فانه هو كذلك يكاد يقتصرأو يغلب الجانب المعنوى السياسى والاجتماعى فى تحليله وتفسيره لشعر أمل دنقل ".
هذه الجوانب التي استوقفت الأستاذ العالم لاتعيب الكتاب لأنها بعض ما كانت تتطلبه طبيعة دراستى و التى كان عنوانها الأصلى " أمل دنقل - أمير شعراء الرفض " والتى قصدت بها تقديم رؤية أو قراءة خاصة لشاعر رافض من خلال شعره. وهو شاعر متميز بحساسيته الشديدة إزاء قضايا وطنه وناسه الاجتماعية والسياسية، وكان ارتباطه الشديد بهذه القضايا سراً من أسرار إلهامه وتفجر موهبته، حتى كاد شعره كله وأفضل قصائده أن تكون وقفاً على هذه الأمور. فلم يعرف أن أمل دنقل قد كتب قصائد متميزة فى الحب أو الهجر أو فى أغراض أخرى كالمديح أو المناسبات.
كذلك ارتبطت حياته بشعره ومواقفه ارتباطا وثيقاً بصورة لا تكاد تتكررعند شاعر آخر. وهذا ما أوضحته فى أول فصول الكتاب حين قلت: " أن تطوره الشعرى سار بإزاء حركة الواقع فى نطاق قانون الفعل ورد الفعل أو التحدى والاستجابة، ولهذا تحدد عنده موقف الرفض والقبول ومن ثم كان الرفض عند شاعرنا يمثل موقفاً أخلاقياً توصل إليه من خلال معاناته لتجربة الحياة والفن فى واقع محروم من أجواء العدل والحرية ". و إزاء هذا لم يكن هناك مفر من الاعتماد على المنهج التفسيرى.
وكان يمكن للأستاذ العالم أن يكون منصفاً أكثر لو حذف من عبارته كلمة " المباشر " لأن فيها الحد الذى يفصل بين نقدى فى هذا الكتاب ونقده هو وجماعة التفسير المباشر فى الخمسينات. ولعله أن تكون صدفة غريبة أن يأتى هذا الكلام في هذا الوقت بالذات إذ سبق لى أن اثبت اعتراضى الشديد على منهجه هذا وذلك فى كتابى " لويس عوض و معاركه الأدبية " (عند مناقشتى لرأى طه حسين والعقاد حول الأدب الجديد ووصف طه حسين كلام محمود العالم وعبد العظيم أنيس بأنه طلاسم وألغاز تارة وتارة أخرى بأنه كلام سريانى أو يونانى لا يقرأ ص 124)
فتفسيرى يعتمد على تحليل بناء القصيدة ككائن عضوى مستقل بذاته حتى يمكن التعرف على الصورة الكلية أو الانطباع العام الذى منه يمكن استخلاص الدلالة.- وهذا ما فعلته بدرجة تكفى القارئ العادى الذى يتوجه إليه الكتاب. ومن أجل هذا ابتعدت عن الاستغراق فى الشكليات والتفصيلات البنيوية التى تهم المتخصصين، والتى تفسد على القارئ أو المثقف متعته فى تذوق العمل الأدبى، وقد كان أمامى مقال الدكتور صلاح فضل الذى عرضت له فى كتابى ونقدته بالقول :
" هذه نماذج للطريقة البنيوية فى النقد كما طبقها الدكتور صلاح فضل فى دراسته لشعر أمل دنقل وهى طريقة مفيدة بغير شك تساعد على فهم بنية القصيدة و العناصر الفاعلة فى تكوينها. فهى دراسة لغوية أسلوبية تحصر نفسها فى دراسة الشكل الفنى فقط ولا تكفى وحدها فى كشف علاقة نص أدبى بنص آخر أو ارتباط هذا النص بظاهرة ثقافية أو اجتماية أو تاريخية ".
ذلك إن مهمة النقد كما تعلمتها عند إليوت و مدرسته، هى توضيح الأعمال الأدبية حتى يمكن فهمها والاسمتاع بها . وبتعبير آخر ترقية الذوق والفهم وزيادة الاستمتاع. فهى مهمة تنويرية قبل كل شيء، اما اظهار البراعة فى الثرثرة بذكر شفرات ولغريتمات كلامية، فهو أمر لا يستهوينى ولم أعد به أحدا حتى لا يطالبنى به. وقد ضاق صدر الدكتورصلاح فضل ضيقاً شديداً بهذا النقد الموضوعى، واستشاط غضباً فى الندوة خصوصاً عندما أشار الأستاذ محمود العالم إلى هذه الفقرة ... واخرجه هذا الغضب عن الموضوعية فى التناول حتى قال:
" كان على المؤلف أن يتساءل: ما الذى لا أجده فى شعر أمل دنقل، وهو ما لم يفعله وقد اكتفى بالإجابة على سؤال: ماذا وجدت فى شعر أمل دنقل؟ وهكذا حمله الغلو فقال كلاما كثيراً لا يمت للنقد الموضوعى بأى صلة وكان يقوله بغضب وانفعال شديدين، أصاب الحاضرين بالدهشة والوجوم وكان المكان ممتلئاً بنخبة كبيرة من الأساتذة والنقاد والكتاب فلم ينطق أحدهم باستفسار أو تعليق بعد أن تكهرب الجو هكذا دون مبرر معقول. و كانت هذه ربما المرة الأولى التى تواجه فيها ندوة ساخنة فى الاتيليه بمثل هذا الصمت. لم أكن مسئولاً أبداً عنه لأننى قابلت هجوم الدكتور صلاح فضل بابتسامة، ولم أرد عليه، فلأول مرة يحاسب كاتب على ما لم يقله، فالكاتب يحاسب دائماً على ما كتب أو قال. لم ينشر الدكتور صلاح فضل كلامه ولا أعتقد انه يمكن أن ينشره كما قاله أبدا فى أثناء ثورته العنيفة.
إن النقد بل حتى القسوة فى النقد هى أحياناً حق من حقوق الناقد وقد كان الأستاذ محمود العالم قاسياً لكنه لم يصل إلى هذا الحد، أما موقف الدكتور صلاح فهو المثير للتساؤل، فنقدى للبنيوية لا يصلح سبباً لذلك لأن الدكتور صلاح فضل لم يكن مسئولا عن قصور البنيوية لسبب بسيط هوأن الدكتور صلاح فضل ليس من دعاتها الأصليين وإنما هو أستاذ وناقد كبير مجتهد ساهم فى التعريف بهذه المدرسة الأوربية فى ترجماته ونقده. و قد اثنيت على تمكنه وتطبيقه لها ولا أعتقد أن تساؤلى عن توقفه عن مناقشة ديوان " العهد الأتى " بغير مبرر يمكن أن يدفع بناقد كبير مثله إلى هذه الثورة الغاضبة فقد كنت أطالبه بما وعد به فى بداية حديثه عن المجموعة الشعرية وهذا ما قلته ص 265 و رغم تناوله لعديد من قصائد أمل دنقل إلا أنه توقف أمام ديوان " العهد الآتى " بغير مبرر ولم يتناول إلا قصيدة " صلاة " وهى أول وأقصر قصائد المجموعة ، واكتفى بقوله " و بالرغم من أن مجموعة " العهد الآتى " ذات قوة آسرة تغرى باستمرار التناول النقدى، فإننا مضطرون لأن نخلع أنفسنا من منطقة جاذبيتها لنعود كما وعدنا إلى شرح فكرة التزاوج والتمثيل لها " وكان تعليقى كما ورد فى الكتاب هو:
" وهذا عذر لا يكفى طبعاً لتبرير عدوله عن تناول أى قصيدة من قصائد المجموعة، لأنه لم يناقش القضية التى طرحها حين قال " فالشاعر يطمح إلى أن يكتب لنا انجيل العصر الحديث الذى يقف بين العهدين القديم والجديد، بل ينزع إلى الحلول بديلاً عنهما ".
ولم يقل الدكتور صلاح فضل: هل نجح الشاعر أمل دنقل فى تحقيق هذه الغاية أم أخفق؟ رغم أنه طالبنا من البداية بمناقشة هذا الأمر دون حرج قائلاً: " ولا ينبغى أن نتحرج من تحليل هذه الظاهرة فكل مظاهر الخلق الإنسانى تبدو وكأنها قبس من النبوة وفيض عنها، فلماذا عاد وتحرج من الماقشة ؟"
وهكذا كانت مناقشتى فى لب الموضوع، لم أقل كلمة خافى معكةرجة أو كلمة جارحة بل كنت أطالبه بما وعد به وأهيب به أن يكمل ما بدأه لأنى أثق فى قدرته على هذا، لكنه أخذ الأمر على محمل آخر . فلم يكد الأستاذ محمود العالم يعيد الإشارة إلى أقوالى حتى أخذ الدكتور صلاح فضل يدافع عن مقاله بغضب شديد وكأننا في معركة. وكان مما قاله انه كتب ذلك المقال فى ظروف سياسية صعبة لم تكن ترحب بالنقد عموماً. ولم يكن الحديث عن أمل دنقل وشعره يجد قبولاً من الأجهزة الاعلامية والثقافية فى الدولة، فمال الدكتور صلاح فضل إلى التخفى خلف منهج البنيوية حتى لا يقال صراحة ما ينبغى أن يقال ... ومع ذلك لم تنشر الأهرام مقاله، حسب اعترافه هو فى الندوة. ولا بأس أن يكتب الدكتور صلاح فضل أو غيره من النقاد ما يريد وبالطريقة التى يراها و يختارها بشرط واحد هو أن يحترم حق الآخرين الذين قالوا ما لم يرغب هو فى قوله.
وحين أتذكر هذه الندوة أجد أن المشهد كان غاضباً بشكل غير عادى. كان الصراع واضحاً بين الناقدين الكبيرين، وأشهد أن محمود العالم كان قاسياً فى نقده لمقال الدكتور صلاح فضل، وفى نقده لكتابى، و كان منحازا جدا لكتاب صديقه سيد البحراوى الذى لم يتناول سوى قصيدة واحدة هى " مقابلة خاصة مع ابن نوح " . وقد حاول الدكتور صلاح فضل أن يرد بالعنف أيضاً فكان كلاهما كمصارعين يريد كل منهما أن يصرع الآخر .وتحول الجزء الأكبر من هذا العنف نحوى كان الوضع بالنسبة لى أشبه بمعركة بين اثنين من النقاد الكبار المحترفين وبين أحد الهواة الذى اقتحم الملعب فجأة بكتاب صغير فأثار زوبعة وفجر حاجز الصمت فانطلقت الألسنة وجاءت بعض ردود الفعل أشبه بطلقات المدفعية الثقيلة لإرهاب هذا الدخيل وحذيره .
لكننى تقبلت الأمر بابتسامة هادئة، ومال معظم الحضور إلى جانبى ، فالتفوا حولى وغمرونى بمشاعر التقدير و التشجيع ، أذكر منهم الكاتب الفلسطينى الدكتور فيصل دراج الذى شد على يدى وقال : " رغم كل هذا فأنا أحييك على هذا الكتاب" أما الدكتور أنور لوقا فنصحنى بألا أغضب لأن هذا دليل على تأثير كتابى ... و قال: " كتابك نفذت طبعته وأصبح جزءاً من ثقافة الشعب . أما هذه الكتابات الأخرى فسوف تظل محصورة بين قلة من المتخصصين ".
وفى جانب كبار النقاد المنصفين يقف الدكتور عبد المنعم تليمة الذى أوجز رأيه فى نقاط محدودة وذلك فى برنامج مع النقاد بالإذاعة ( 18/9/1989) فقال:
أعجبنى فى هذا الكتاب جملة من الأمور:
* استقامة المنهج، وهذا المنهج يصدر بالفعل عن وعى صحيح بعلاقة الشاعر بالواقع، واقع متدرج ينتظم البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية ومرتبط بجذوره فى التراث والأساطير.
* نبه نسيم إلى أن الرفض عند أمل دنقل يصدر عن أساس أخلاقى ملتزم وليس الرفض الفوضوى أو رفض الخروج على الجماعة بل رفضه كان مؤسساً على مصلحة الجماعة ومستقبلها.
* كيفية التعامل مع القصيد الشعرى. بشرنا نسيم وأنجز وعده، بأنه سيكشف من خلال التوافق أو التضاد أو التكرار عن رؤية الشاعر.
* فى قصائد أمل دنقل استطاع أن يبين الأداء الشعبى فى العدودة و الندب الصعيدى.
* أن يحدد أن قصيد أمل مبنى أساساً على المفارقة.
* أن يصوب بعض الأحكام الدارجة وأن يبين أن العنف والرفض ليس صادراً فحسب عن فلاسفة العنف كنيتشه وإنما عن بعض الكتب المقدسة كالعهد القديم.
بالإضافة إلى الأستاذ رجاء النقاش الذى قال فى مقاله الثانى بالمصور بتاريخ ( 12 أغسطس 1988) " لا أعرف فى المكتبة العربية كتاباً آخر عن أمل دنقل له من القيمة والوضوح والدقة ما يتوافر فى دراسة نسيم مجلى . وفى البرنامج الثانى قال الأستاذ رجاء " إنه عموماً أهم كتاب صدر فى الفترة الأخيرة، وأهم كتاب نقدى وهو كتاب ساخن إن صح التعبير ".
لقد نشرت آراء أخرى عديدة فى الصحف العربية الأخرى وسمعت آراء عشرات من أساتذة النقد فى الجامعات ومن الشعراء البارزين كلها تشيد بمنهج الدراسة ومستواها ، فإن دل هذا على شئ فإنه يدل على أن المستوى الذى حققته كتاباتى يحوز القبول والتقديرعند جمهور كبير من النقاد ، ويؤكد على صحة منهجى وسلامة موقفى و اتجاهى مبدعاً وناقداً.
وكان حكم القراء حاسماً إذ نفذت طبعة الكتاب الأولى فى أسبوعين واعيد طبعه فى هيئة الكتاب بالعنوان الأصلى سنة 1994 " أمير شعراء الرفض " ثم جاءت الطبعة الثالثة فى مكتبة الأسرة سنة 2000 ونفذت فى ساعات وهأنذا استعد لتقديم الطبعة الرابعة بهذه المناقشة الساخنة والثرية فى آن واحد.
وقد صدرت هذه الطبعة الرابعة في كتاب الجمهورية سنة 2008، وقد طلب منى الكاتب الصحفى الكبيرالأستاذ على هاشم رئيس تحرير سلسلة كتاب الجمهورية التي تصدرها دار للنشر، أن أكتب كلمة تصديرا لهذه الطبعة فكتبت الآتى :
كلمة عابرة
عن فراءة الشعر والأدب
النقد الأدبى كما تعلمته، ينبغي أن يكون تجريبيا وعمليا أكثر منه نظريا. فأساتذة النقد الكبار يمارسون فنهم من أجل تجلية كل ماهو مضمر فى العمل الأدبى لكى يصير مفهوما. وهذا ماكنت أفعله دائما سواء في قرائتى قصيدة لصلاح عبد الصبور أو في رواية لنجيب محفوظ أوفى مسرحية لألفريد فرج. وهو الشىء ذاته الذى فعلته في دراستى لأشعار لمل دنقل، ومن ثم فإن كتابى قد لمس العصب الحساس في أجهزة السلطة فبادروا بمصادرة الكتاب قبل أن يخرج من المطبعة، وصوبوا الهجوم على عنوان الكتاب." أمل دنقل أمير شعرا الرفض" وسألوا: رفض من؟ أورفض ماذا؟
كان هذا العنوان خلاصة مركزة لكل ما صورته أشعار أمل دنقل الثورية وجسدته في أذهان الجماهير وشباب الجامعات الذين كانوا يتظاهرون بالألاف وهم يرددون هذه الأشعار. وكان طيعيا أن تنزعج أجهزة القمع وتقوم بمصادرة الكتاب ونزع غلافه ولا تسمح لطبعته الأولى سنة 1988 بالخروج من المطبعة إلا بعد نزع الغلاف الخارجى والداخلى لإزالة كل أثرلهذا العنوان. لقد وضعت قصائد الشاعرفى موازاة الأحداث وأوضحت ما كانت تضمره وتخفيه، فانجلى معنى الرفض ومغزاه..فإذا هو رفض لكل ماهوقبيح ودميم. رفض لفساد السلطة وأجهزة القمع ومصادرة الحريات.
وهى الملامح الواضحة التى انطبعت على وجه النظام السياسى المصرى من بداية ثورة يوليو وحكم العسكر حتى الآن، والتي أدت إلى التدهور في جميع نواحى الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية أيضا. والتي أدت إلى هزيمة 1967، وبددت ثمارنصرأكتوبر1973، وفتحت الباب واسعا أمام المنافقين والأنتهازيين والمهربين وسماسرة الإنفتاح فاستولوا على ثروة الوطن وتركوا غالبية الشعب تعانى الفقر والأمراض
والمؤسف أن النظام السياسى المصرى قد فشل حتى الآن وعجز عن التطور والسيرفى طريق التقم وبناء الدولة الحديثة، دولة المواطنة وإقامة مؤسسات المجتمع المدنى من أجل تحقيق العدل والمساواة بين المواطنين وتعزيز سلطة القانون وبدلا من ذلك دخل في تحالفات مريبة مع جماعات الإسلام السياسى ودعاة الدولة الدينية. وكانت المفارقة هي ان هذه الجماعات التي أطلقها السادات لمحاربة خصومه من الناصريين والشيوعيين والأقباط هم الذين قتلوه في يوم احتفاله بنصر أكتوبر.
ورغم هذا فإن خلفاء السادات لم يتعلموا الدرس ولم يتخلوا عن نهجه وساروا في نفس الطريق بالتركيز على ضرب الأحزاب السياسية واضعافها وفتح المجال واسعا أمام التيار الدينى للسيطرة على الجامعات ومؤسسات الدولة وعقد الصققات السرية مع قياداته من الأخوان المسلمين، مما أدى إلى فضائح الانتخابات البرلمانية الاخيرة، حيث حصل الإخوان على ربع مقاعد المجلس وفشلت الأحزاب السياسية الأخرى بسبب التزويروالبلطجة وشراء الأصوات.
والحقيقة أن ماحدث كان امرا متوقعا بالنسبة لكثيرمن العقلاء والمثقفين الأصلاء، تنبأت به أعمال أدبية وفنية كثيرة، ربما نذكر فيلم "القاهرة 30" ونهايته الفاجعة حيث نسمع محجوب عبد الدايم يطمئن إحسلن شحاتة أوسعاد حسنى بأن شيئا لن يتغيروأن الأوسخ هوالذى يكسب .
فالتدهور مستمر والأوسخ يكسب ولا مواجهة للفساد والفاسدين. وعندما تقرأ أشعار أمل دنقل معى في هذا الكتاب الذى بين يديك، ستجد بانوراما كاشفة تشير إلى مواطن الخلل وأسباب العلل المزمنة. كانت قصيدة (الأرض والجرح الذى ينفتح) سنة 1966، رؤية فاجعة ونبوءة بكارثة وشيكة الوقوع، فلم يكد ينقضى عام على نشرها حتى داهمتنا هزيمة يونية 1967. وبعدها كتب أمل أخطر قصائده التي كرست موهبته كشاعر أصيل وهى " البكاء بين يدى زرقاء اليمامة " ليكشف عن الخلل الخطير الذى أدى ألى وقوع الكارثة.
والعجيب أنه تنبأ في نهاية القصيدة الأولى بعقم النظم العربية وعجزها عن القيام بأى دور فعال إذ ينهى الفصيدة بالقول:
لم يبق من شيء يقال
يا أرض
هل تلد الرجال؟
وهكذا تتوالى قصائده الواحدة تلو الأخرى لتكشف عن مكامن العجز والإفلاس الروحى المتجسد فى عاملين أساسيين هما: التخلف الثقافى والإنتهازية السياسية.
وكشف عورات النظام السياسى المصرى بهذا الوضوح هوالذى يزيد اهتمامنا بشعر أمل دنقل وندعو الناس جميعا لقرائته والنظر فيه كمرآة كاشفة للعيوب والقبح حتى نعمل على التخلص منها.
وقد قال أحد المفكرين العرب:
"عندما أريد أن أبحث عن الحقائق الأولى فى حياة أي بلد، وعن القواعد السياسية القادرة على تفسير توجهاته، فإننى لا أعتمد كتب التاريخ المؤلفة ولا المذكرات السياسية الضافية وإنما أتوجه مباشرة إلى الأدب أسمع من الشاعروالقصاص والروائى أولا، وبعد ذلك يجىء الدورعلى المؤرخ والسياسى والدبلوماسى .
صاحب هذه المقولة هو الدكتور ثابت العريس المفكر السورى، وكان سفيرا لدولة الوحدة بين (1958-1961) في يوغسلافيا، أوردها الأستاذ حسنين هيكل في مقاله من البوسنة إلى كوسوفو، ثم زاد الأمر وضوحا فقال:
كان رأى ثابت العريس، أنه حين يكتب المؤرخ والسياسى والدبلوماسى فإنه مضطر بحكم طبائع الأشياء إلى أن يظل دائما وراء الظاهر،المرئى والمتحرك – وأما حينما يكتب الشاعر والقصاص والروائى – فإنه يغوص إلى الأعماق ويجوس هناك حول الكوامن التي يمكن أن نسميها "روح الأمم " وينفذ ألى الخلايا التي تحتفظ وحدها ل "شرايين الحياة" في عمروطول بقائها، فإذا أردت ان تفهم يوغسلافيا فاقرأ قصة " جسرعلى نهر أدرينا " التي كتبها، إيفو أندريتش، واستحق عليها جائزة نوبل للأداب فيما بعد 1961م.
هل عرفت الآن عزيزى القارىء لماذا ينبغي أن تقرأ الأعمال الأدبية والشعرية وهذا الكتاب بصفة خاصة.
وبعد نشرهذه الطبعة وفى يوم 29 يولية 2008 استضافت الجمهورية ندوة في مقرها بشارع رمسيس قدمها الكاتب الصحفى الأستاذ مصطفى القاضى وتحدث فيها الدكتورعبد المنعم تليمة والدكتورمدحت الجيار والأستاذعبدالغنى داوود والأستاذ محمدعبد الحافظ والدكتومحمدالعبد والدكتورعبد السلام اللشاذلى ونقلتها قناة التنويروبعض الفضائيات الأخرى.