الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ
ليس سرًّا أن اللاهوت، كما يُدرَّس ويُناقَش في مصر، يعاني من الجمود والتكرار، بل ومن الغربة عن الأسئلة الحقيقيّة التي تواجه المؤمنين والمجتمعات. وبينما تحتفل الكنائس بأعيادها الليتورجية وتواصل تعليمها الديني، يظلّ اللاهوت، في كثير من الأحيان، حبيس قوالب تقليديّة ثابتة لا تفهم أو مكرَّرًا من ترجماتٍ غربية لا تمسّ الواقع المحلّيّ في شيء. لذلك، من وحي كتاب عميد الأدب العربيّ طه حسين يمكننا أيضًا الاستفادة منه في مجال اللاهوت والكنيسة المصريّة.

أزمة الرقابة والجمود
تخضع أغلب أشكال التفكير اللاهوتي في مصر لنوع من الرقابة، ولكنّ الإشكال العميق هو أنّ هذه الرقابة كثيرًا ما يمارسها غير المتخصّصين في اللاهوت أصلًا. فالكثير يظنّ أنّه حامي الإيمان لمجرد حصوله على درجة كهنوتيّة. في بعض الكنائس، يُراجَع أي كتاب أو أطروحة أو حتى فكرة جديدة، لا حسب معايير البحث العلميّ الأكاديميّ أو المسكونيّ، بل وفق مدى "الانضباط الكنسيّ"، الذي يفرضه من له سلطة كهنوتيّة أعلى.

وهكذا، يجد عالِم اللاهوت نفسَه محصورًا بين خيارين: إما التماهي مع خطاب تقليدي لا يحرّك ساكنًا، أو الاصطدام بجدران سلطوية لا تسمح بالسؤال. وهذه معضلة حقيقية، لأنها تعني أنّ التفكير اللاهوتيّ في الكنائس لا يخضع لمبدأ "مناقشة الإيمان بفهم جديد"، بل لمبدأ "الولاء الصامت للتقليد" – حتى وإن كان هذا التقليد ليس التقليد بالمعنى الآبائي بل بمعنى هذا ما تعلمناهَ، ومن ثمّ فقدَ صلته بالواقع منذ زمن.

الحاجة إلى مجالس لاهوتية متخصّصة ومسكونية
تلك الأزمة البنيوية تُحتّم علينا أن نُعيد النظر جذريًا في بنية إنتاج اللاهوت. من هنا، تبرز الحاجة إلى:

تأسيس لجان لاهوتية خاصة بكل كنيسة في مصر، تتكوّن من لاهوتيين متخصّصين، لا من موظّفين كنسيّين أو إداريّين. هذه اللجان تكون مسؤولة عن دراسة التطورات اللاهوتية العالمية، ومتابعة قضايا اللاهوت المحليّ، واقتراح برامج تكوين مستمرة.

ثمّ، ومن قلب هذا التنوع، تُنشأ "لجنة لاهوتية مسكونية مصرية"، تعمل على تطوير رؤية مسكونية محلية، تتجاوز الانقسامات الموروثة بين الكنائس، وتُعيد الاعتبار لفكرة "اللاهوت بصفته خدمة"، لا "اللاهوت أداة سلطة".

نحو لاهوت باللغة العربية بلا سلطويات تاريخية
إنّ إحدى أزمات اللاهوت في مصر هي أنه لم يزل حبيس اللغات القديمة – سواء في التكوين أو في المنهج. وهذا يعود إلى جذور استعمارية كنسيّة، حيث كانت الكنائس في الشرق تابعة إداريًا ولاهوتيًا لكنائس مختلفة.

لكن ماذا لو انطلقنا من لغتنا؟ ماذا لو بدأنا التفكير بالله، والتاريخ، والخلاص، والرجاء، والمجتمع، بلغة عربية حيّة، لا ترجمة عن الآخر بل صوتٌ أصيل نابع منّا؟

ذلك يتطلّب تجاوز إرث صراعات الألفية الأولى: صراعات بين البطاركة والكرادلة، بين الإسكندرية وروما والقسطنطينية وأنطاكية، صراعات بين اللغة اللاتينية واليونانية، التي كثيرًا ما تحوّلت إلى معارك سلطوية أكثر منها لاهوتية. إننا نحتاج إلى لاهوت بلغة عربيّة مسكونيّ، لا يعيد إنتاج الانقسامات القديمة، بل يبحث عن لغة مشتركة جديدة، تنبع من واقع شعوبنا وأسئلتها الحارقة والملحة.

نحو لاهوت يسائل الواقع
ما قيمة اللاهوت إن لم يُسائل الظلم، ويُنطق المسكوت عنه، ويُحرّك الرجاء؟ ليس المطلوب أن يتحوّل اللاهوت إلى خطابٍ سياسيّ، بل أن يظلّ أمينًا للإنجيل، الذي لم يُكتب في فراغ، بل في أرض مضطربة، في ظلّ الاحتلال الروماني، وبين فقراء ومنبوذين وخطأة.

إنّ صمت اللاهوت السائدعن قضايا مثل الفقر، وقمع الحريّات، وإهانة المرأة وإقصائها والعنف باسم الدين، يعكس أزمة في فهم رسالة الإنجيل ذاتها. والمطلوب ليس أن "نُسيّس" الكنيسة، بل أن نُعيد للمسيح موقعه بصفته صوتًا للمهمّشين، لا شعارً للسلطة.

أخيرًا: لاهوت الرجاء، لا لاهوت الخوف
اللاهوت، في جوهره، ليس تكرارًا لتقليدٍ ماضٍ، بل تأوينٌ حيّ للقاء الإنسان بالله في سياقه الحاضر. مصر، بتاريخها وتعدّدها وجرحها، تحتاج إلى لاهوت يُحاور شعبها، لا يُملَى عليه من فوق. لاهوت لا يتعالى، بل يسير مع الناس، ينصت إلى معاناتهم، ويصوغ من جراحهم أسئلة الإيمان.

ذلك اللاهوت لن يولد من الإدارات، بل من الحقول، والمصانع والشوارع وبـين الباعة الجائلين ومكاتب الموظفين ومواقف الباصات والتكاتك!  لن يأتي من فوق، بل من القاعدة. من الذين لم يزالوا يؤمنون بأن الله يتكلّم… بلغتنا.

الأب جون جبرائيل الدومنيكانيّ