القمص منقريوس المحرقي
لم تبنِ الكنيسة الأولى رسالتها على مفاهيم بشرية أو فلسفات عقلانية، بل على شهادة الرسل الذين رأوا المسيح القائم، ولمسوه، وكرزوا به حتى الدم. وفي مقدّمة هؤلاء الرسل يبرز اسمان يشكّلان ثنائية رسولية فريدة: بطرس الصخرة، وبولس المختار. لم تكن وحدتهما قائمة على الخلفية أو الثقافة، بل على الشهادة للمسيح المصلوب والقائم، وعلى "كلمة الصليب" التي "لِلَّهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا لَنَا ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ ٱللَّهِ" (1 كورنثوس 1: 18).
بطرس: من الضعف إلى الصلابة
كان بطرس صورة الإنسان المتأرجح بين الحماس والخوف، بين الإعلان الإلهي والإنكار. لكنه بعد القيامة وحلول الروح القدس، أصبح “صخرة” فعلًا، يقود الكرازة في أورشليم بقوة لم يعرفها من قبل. وقف في وجه السنهدريم، وقال بجرأة: “يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ” (أعمال 5: 29).أعلن بطرس أن الخلاص هو فقط “بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلنَّاصِرِيِّ، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، ٱلَّذِي أَقَامَهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ” (أعمال 4: 10). وبهذه الجرأة، دُشنت أولى عظات الكنيسة، وسُمع صوت الإنجيل لأول مرة في قلب الهيكل اليهودي.
قال القديس يوحنا الذهبي الفم: “لقد نطق بطرس، لا بروح صيّاد الجليل، بل بروح الحق المتكلم فيه. هو لم يعظ، بل فَجَّرَ نورًا في ظلمة أورشليم.”بطرس كرز لليهود أولًا، لكنه لم يتقوقع في قوميته، بل نزل إلى بيت كرنيليوس الوثني، معلنًا فتح أبواب الخلاص أمام كل من “يَتَّقِي اللهَ وَيَصْنَعُ ٱلْبِرَّ” (أعمال 10: 35).
بولس: من الجلاد إلى الشهيد
إن كانت كرازة بطرس انطلقت من اليهود إلى الأمم، فإن كرازة بولس انطلقت من صدمة الرؤية إلى استنارة البصيرة. لقد سقط بولس على طريق دمشق، لكنه في الحقيقة نهض من سقوط البشرية القديمة ليحيا إنسانًا رسوليًا جديدًا. حيث قال له السيد المسيح:“هذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ، لِيَحْمِلَ ٱسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ” (أعمال 9: 15).بولس لم يكرز نظريًا، بل قال:“وَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لَا أُبَشِّرْ!” (1 كورنثوس 9: 16)،وقال أيضًا:“فِي ٱلتَّعَبَاتِ أَكْثَرَ، فِي ٱلضَّرَبَاتِ أَوْفَرَ… فِي ٱلْمَوْتِ مِرَارًا كَثِيرَةً” (2 كورنثوس 11).هو لم يكن سفيرًا للكلمة فقط، بل إنجيلًا حيًا. كان مستعدًا أن يُحرَم من المسيح - إن أمكن - لأجل خلاص إخوة حسب الجسد (رومية 9: 3). إنه الحب الكاروزي الذي يتخطى الأنا ويذوب في مشيئة الله. كتب القديس غريغوريوس النزينزي عن بولس:“ما إن تقرأ رسائله، حتى تتخضّب بدمه، وتشمّ رائحة سجونه، وتشعر بحرارة لاهوته الذي لا يُطفأ.”
بطرس وبولس: وحدة التنوع في الكرازة
رغم الاختلاف الظاهري بين شخصيتيهما، فقد اجتمعا في النهاية تحت راية الاستشهاد الواحد، في مدينة روما، عاصمة الوثنية والإمبراطورية. هكذا صار استشهادهما ختمًا على وحدة الكنيسة الرسولية الجامعة، التي لا تقوم على شكل واحد، بل على تنوع ينبع من روح واحد. الأول صُلب مقلوبًا، والثاني قُطع رأسه، وكلاهما نطق قبل الموت بالكرازة الأخيرة: أن المسيح حيّ، والقيامة حقيقة.
دعوة الكنيسة المعاصرة: كرازة لا تهادن
إن احتفلنا ببطرس وبولس دون أن نتمثل بهما، صرنا مجرد مكرّرين فارغين. دعوتنا كمسيحيين اليوم ليست أن نقرأ عن الرسل، بل أن نحيا رسالتهم. يقول القديس أثناسيوس الرسولي:“كل مسيحي هو رسول، ما دام يحمل الروح ذاته، ويبشر بالحق عينه.”العالم اليوم لا يعوزه المعلومات، بل الشهادة. إنجيلنا ليس أيديولوجيا، بل شخص حيّ – يسوع المسيح – ومهمتنا أن نُظهره من خلال الاتّضاع، الحب، الصليب، الحق، والموت عن الذات.قال البابا شنودة الثالث:“الكرازة ليست أن نقول للناس: تعالوا إلى المسيح، بل أن نعيش المسيح أمام الناس.”نحن أيضًا مدعوون إلى الكرازة بالدموع والحقيقةالكرازة لا تبدأ من المنبر، بل من المخدع، من التوبة، من العلاقة الشخصية مع الرب. من لا يصلي، لا يستطيع أن يبشّر. ومن لا يتألم، لا يُثمر. كل كرازة بلا صليب، هي إعلان بلا قوة. وكل كرازة بلا روح، هي ضجيج بلا خلاص.
صدى الرسولين في ضمير الكنيسة
بطرس وبولس لم يموتا. إنهما بعد حيّان في صلوات الكنيسة، في عظات المذبح، في دم الشهداء، في كلمة الحق، في كل إنسان يقف بجرأة ويقول للعالم:“لا نقدر أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا” (أعمال 4: 20).فلنقف إذًا في هذا الجيل، حاملين مشعل الرسالة، متممين ما بقي من آلام المسيح في أجسادنا (كولوسي 1: 24)، حتى “يعرف الجميع أنك أنت هو المسيح ابن الله الحي”.