د. أمير فهمي زخارى

 
كثيرًا ما نسمع البعض وخاصة في الأوساط الشعبية الفقيرة يتلفظ بالعيشة واللي عايشينها حيث يعبر بذلك عن معيشته اليومية، أو عن مشكلات الناس الذين يعيشون هذه الحياة ...  وفي بعض الأحيان قد يكون ذكر هذا القول الشائع عبارة عن سب لهذه العيشة، فهو لفظ يقال في حالة ضيق، حيث يقول البعض عندما يضيق عليهم الأمـــر فــي حياتهم اليومية أو يضل بهم الطريق، أو يعجزون عن التماس الحل: " يلعن أبو العيشة واللي عايشينها " ..
 و " العيشة " مشتقة من " العيـــش "، والعيش يرتبط بشيئـــين هامين في المجتمع المصري وهمــــا: رغيف العيش، والحياة (أي يعيش المرء بمعنى أن يبقي على حياته) ..
 
 وقد ارتبط العيش في الحيـاة المصـرية برغيـف العيش، ذلك أن أقل ما يبقي المصــري عــلى حيــاته هــو رغيــف العيــش الذي يعمــل الفــلاح البســيط على توفيره لنفسه ولأســرته، وهــو فــي عمله كفـــلاح ــ فــي العصر الفائت ــ كان يأخــذ البــؤجة ( الصرة ) وبها رغيف عيش " مخبوز في الفرن البلدي "  وجبنـــة قديمة أو شوية ملح ، ويذهب إلى حقله في الصباح الباكر ،  ليعزق أرضه ويرويها ،  فإذا انتهى من عمله فتح البؤجة وأكل من العيــش ليعيــش ، فالعيش خبز وحياة .
 
ولقمـة العيــش هــي المقصد من الحركة، وليس هناك بلد يطلق على الخبز عيش سوي مصر، فالمصري مهموم منذ الأذل بلقمة العيش ولذلك أيضًا تفنن في تنويع العيش، من عيش مرحرح ، وعيش مصـــري ، وعيـــش شمســي ، وعيــش بلــدي ، وعيش فينو ، وعيش كايزر ، وعيــش سيـــاحي ، وعيــش طباقي ،  وعيش  مدعم .. كما اســتخدم فــي خبــزه الدقيق المستمد من الذرة، والقمح، والردة، والشعير .
 
 كـــذلك ارتبـــط العيش بالملح في الثقافة المصرية ،  حيث المحبة  بين المصري وجاره تكون بأكل عيش وملح مع بعض  وهو أقل  ما يؤكل .. وما زلنا رغم رغد العيش نقول :  " ناكل عيش وملح مع بعض "   كدلالة على دوام العشـــرة والمحبـــة ، ولذلك عندما يتم اتهام شخص ما  بأنه قام بإيذاء  شخص آخر فإنه ينفي ذلك بقوله : "  دا احنا واكلين عيش وملح مع بعض " ، أو أن شخصًا يعاتب صاحبه قائلًا : " يخونك العيش والملح اللي واكلينه مع بعض " ، بمعــنى أن أكـــل العيش والملح مع بعض  هو حصن للمرء ضد خيانة الآخر أو العمل على إيذائه ..  كذلك نجد أنه في حال طرد شخص أجير من عمله فإنه يقول لصاحب العمل بعزة نفس : " أنا لو هاكل عيش بدقة مش هشـتغل عنـدك تاني " .. والحرة تقــول : " أنا أكل عيش حاف ولا أفرط  في  شرفي " ..
 
أما بخصوص العيش وأكله ، فالعيش في الثقــافة المصرية  ليس سوى رمز ،  وهو يرتبط بالعمل ، فالخارج من بيته سعيًا لطلب الرزق  يقول : " أنا ذاهب لأكل عيشـــي " ،  ونقـــول على الواحد اللى عاوز العمل والقيام به : " أنه  بيجري على  أكل عيشه " ..  وإذا فصل شخص من عمل يقال عنه : " إن صاحب العمل قطع عيشه "..  وفي حال تحمل الصعاب والمشقة في أداء العمل نقول : " أكل العيش مـر " ..
 
 ويشتق من العيش ألفاظ عديدة منها قولنا عايش .. حيث تسأل زميل عن أخباره فيرد قائلًا  : " عايش " .. أو يقول في حال ضيق حالة: " أنا عايش عيشة قاسية " ..
 
أما اللي عايشينها فهم النـــاس، والنــاس بالنسبة للفلاح قسمان : قسم تعبـان مثله ( وهم الفلاحين والغلابة والذي هـــو منهــم ويتوحد معهم ) ،  وقسم تعبان منهم ( وهم يمثلون السلطة ) ..
 
 وهو إذ يسب الجميع حيث يقول : " يلعن أبو العيشة واللي عايشينها "  فهو يسب القسمين معًا : يسب حاله وحال الغلابة الشقيانين ويعانون في حياتهم ..  ويسب المسئولين الذين لا يهتمون إلا بأنفسهم ،  ويأخذون حصاد زرعه بأقل القليل ، ولا يسألون عن صحته ، وتركوه لمعاناته .. وهو بذلك يستخدم ميكانيزم التعميم ، والفائدة من التعميم هي الهروب  من  المسئولية ،  لكونه بعد عن  التخصيص ،  ومن ثم لا تنشأ جريمة يؤاخذ عليها ، حيث أنه يندرج ضمنا  بين الجميع ( أي بين اللي عايشينها ) ، وبهذا يرد السباب إلي نفسه ، فهو وإن كان يسب غيره فهو يسب نفســـه  " إن شـــتمت فنفسك تشتم " .
وبمناسبه عباره " العيشة واللى عايشنها"
 
فيه سيناريو من مشهد فى مسلسل أدم.. بيقول فيه:
- (يارب أنت اللى عالم بحالي، أنت اللى عارف ان أنا مش عايز أغضبك، بس العيشة بقت صعبه ومش عارف أعمل ايه، الغلا بياكلنا ومحدش بيرحمنا، والمرتبات بقت عامله زى نقطه المياة اللى بتضيع في بحر المصاريف كل شهر، الديون قاطعه وسطى وأقساط الجمعيات هادد حيلى.. مخنوق.. مخنوق.. مخنوق يارب مش عارف آخد نفسي..
 
- زمان لما كنت بقبض مرتب صغير كان مكفينى ومكفى مصاريف عيالى.. كنت بأكلهم لحمه كل يوم، النهاردة بعدما مرتبى بقي أضعاف اللى كنت باخده زمان.. مش عارف أدوقهم اللحمة مره في الأسبوع، المرتبات بقت عامله زى خيل السبق.. بتجري تسابق الأسعار، لا هي عارفه تسبقها ولا حتى قادره تحصلها، واحنا شايلين الهم وساكتين وراضيين ومطحونين.. مش عارفين أخرتها ايه...)
 
الحقيقة الكلمات ومقاطع الفيديو أثر في نفسيتي جدا، وده حال أغلبنا دلوقتى، قلت أنقله لحضراتكم متمنيا من الله في مطلع السنة الجديدة أن يفرجها علينا... تحياتي.
المصادر:
- أ د. عـادل كمـال خضـر " أستاذ علم النفس الإكلينيكي والتحليل النفسى وكيل كلية الآداب - جامعة بنـها"
- السيناريو من مشهد فى مسلسل أدم..
- المقطع من فيلم الموظفون في الأرض.
- ومقطع من مسرحيه لحسن عابدين.