القمص اثناسيوس فهمي جورج
عرفت أبانا المتنيح القمص صليبً حكيمً منذ نعومة أظفاري، سنة ١٩٦٩، عندما كنت فتى صغيرًا في التربية الكنيسية، بكنيسة العذراء محرم بك. ووقتئذ كان الخادم (جمال حكيم) وسط كوكبة من خيرة الرواد الأولين، الذين كان يقودهم الدكتور راغب عبد النور، والعلامة المؤرخ يوسف حبيب، والخادم سامي كامل (القمص بيشوي )، وا. فايز يعقوب (القمص تادرس )، والدكتور عوض قلد، والدكتور بهجت عطا الله، والخادم نسيم سعد، والخادم بشرى تودري (القمص تواضروس)، والمهندس ماهر وصفي (القمص مكسيموس)، والمهندس سمير ثابت (القمص أنطونيوس ) ومهندس سمير سليمان ( القمص موسي ) وفي تلك السنة نفسها رُسِمَ أبونا صليب بتزكية وتدبير أبينا القديس القمص بيشوي كامل .
دعته عناية سيدنا وملكنا المسيح، راعي الرعاة الأعظم، ليكون كاهنًا ومؤسسًا لبيعة الله المقدسة، كنيسة مار جرجس بالحضرة، تلك البقعة التي صقل الله قلبه لتكون نبتة وغرسًا صغيرًا في منطقة الحضرة، والغيط الصعيدي ومنشية النزهة، وضواحي سموحة، وما كان يسمى آنذاك عزبة سعد، وقرى الطريق السريع، حيث الحقل الواسع الناشئ المتعطش لملكوت الله.
لقد كانت البدايات من مقصورة كنيسة العذراء بمحرم بك، حيث اجتماعات الصلاة التي كان سامي كامل أمينًا لخدمتها، وانطلق برعايته الكهنوتية لكنيسة مار جرجس بسبورتنج، متجهًا إلى كنيسة مار جرجس بالحضرة، التي رُسِمَ على مذبحها المقدس أبونا صليب حكيم في ٨ / ١٠ / ١٩٦٩. وأيضًا أرسل إلى هناك أبونا القديس بيشوي كامل ؛ كلا من المهندس نظمي حافظ جبران، والشماس عزت دوس (القمص شنوده) والمهندس فيكتور باسيلي، والخادم فايز داود (القمص كيرلس)، ليكونوا فعلة للحُزمة الأولى من الحصاد، وكي يؤسسوا ويساعدوا أبانا صليبً في خدمته الناشئة، ومعهم آخرون، في خدمة ممتدة تنمو في الزمان والمكان، لتتسع وتزدهر بفعل روح الله. وأذكر ما هو بالذكر جدير: أن السقف الإسبستس والصفيح الذي كان في كنيسة سبورتنج في بداياتها، انتقل كما هو، ليكون سقفًا مع الكراسي للكنيسة الوليدة الجديدة في الحضرة.
إنها بحق قصة أجيال لكنيستنا المجيدة، أم الأولاد الفرحة، التي تتمخض كل يوم بولادات وبدايات من مجد إلى مجد. فالمسيح إلهنا بنفسه عمل بقوته في شخص أبينا المتنيح صليب، وفعل وصايا رعايته فيه، وكان حاملًا لصليبه في تبعية هادئة للمصلوب الذي أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة. وكان لأبينا نصيب كبير من اسمه، فكان جمالا و حكيمًا اسمًا وقولًا وعملًا، يعمل عمل الخميرة النشطة ليخمر العجين كله في صمت شديد وحكمة منظورة ومشهود لها ، لذلك اثمر وتلمذ وعلم وخدم وصار له ابناء كثبرين من الاباء الكهنة المباركين الذين قادهم هو بشخصه ؛ ليكونوا مصنع للقادة وخلية نحل تفرز العسل الصافي : وقد عرفت من بينهم مهندس جوارجيوس يوسف (القمص تادرس ) ودكتور فرج جبره ( القمص مرقس ) وم، فيليب بشوندي ( القمص ابرأم ) وا. وهيب عطالله ( القمص تادرس ) وا. عماد فرج ( القس طوبيا ) والكثير من الاباء والرهبان وسبع طغمات كنيسة الله .
يصمت أكثر مما يتكلم؛ لكنه عندما يتكلم ينطق بسلاسل حكمة أبي الأنوار . وهنا أذكر آخر لقاء لي معه قارب الساعة، تكلم هو فيه دقيقة بسهام مبرية. حكمته من فوق، روحانية، سامية، سماوية، غير مذعنة، رزينة، سلامية، قاطعة، مستقيمة، حاسمة. وأذكر أن شعب الحضرة كان ملتصقًا فخورًا به ؛ وكانوا ينتسبون بأنهم من كنيسة أبينا صليب، لما رأى فيه الجميع، واختبروه من عمل النعمة التي أظهرت نفسها في سَكَناته، و تحركاته ، وكلماته، وقراراته، ومعاملاته في كنيسته وفي المجلس الإكليريكي الذي أداره حُقَبًا طويلة متشابكة. فكان بحق جمالا وحكيمًا كما أسمَوه في طفوليته.
قدم أبونا صليب أيقونة زاهية للكهنوت القبطي في حياته الناسكة المتجردة، ممحِّصًا وفاحصًا كل شوائب المفاخر الذاتية، منسكبًا في موضع جهاده الرعوي، ليتقاطر عليه الخدام والشباب من جهات عِدَّة؛ بل ومن خارج منطقة الحضرة، ليرشدهم بهدوئه الإنجيلي المشبع بالروح الأرثوذكسية المبنية على أساس متين في مسرة وبهجة الروح، حسب فكر المسيح ومنهج التلمذة الآبائية المُذَّخرة في العبادة والسجود والانسحاق، التي سَرَت منه لكل من التقاه، إذ كان مجتازًا من الخيمة إلى أعتاب الأبدية، عابرًا من مجد إلى أمجاد.
كان أبونا صليب شديد الاتضاع، منزويًا ومتطلعًا للمجد الإلهي الذي رجاه وترقبه كل أيام حياته. لم يكن يشتهي شيئًا أو يسعى إلى شيء البتة؛ بل كان مترفّعًا يستجلي الخيرات المنتظَرة، حافظًا للوصية بلا دنس ولا لوم، فوسط صمته الطويل الكثيف وجدته في أزمنة التعقيدات، والتيارات، والعواصف، والاستقطابات، ينظر إعلانات إلهنا ومواعيده - نظرته الفاحصة تظهر عندها حكمته، ويسطع برهان عينيه المفتوحتين علي الأعالي. لقاءاته الصامتة كانت تفصح عن معرفته الحية السرية بأعمال الله، تلك التي أظهرها له بمقتضى الصورة والشبه المتأصلين فيه.
كان ينفق أوقاتًا طوالًا كل يوم في مبنى البطريركية القديم، وكان موضع تقدير البابا الأنبا شنودة الثالث، ومعه طُغمة الآباء الرءوس: القمص مرقس باسيليوس، والقمص بطرس رياض، والقمص بيشوي كامل، والقمص متياس رافائيل، والقمص كيرلس داود، والقمص متى باسيلي، الذين أكملوا السعي وتركوا لنا ميراثًا لن ينضب من البركات ، ومن السيرة الوقورة التي لكهنوت المسيح الراسخة في كنيسة الاسكندرية .
كنت أراك، يا أبي، تضع فرّاجيّتك على يدك، وتتأبط حقيبتك بيدك الأخرى، وتغادر عندما يميل النهار، تاركًا السكينة التي تخلص النفوس، حسبما قال أحد الآباء النساك: "املأ قلبك سلامًا، وكثيرون حولك سيخلصون."
إنك اليوم مثال ننظره، وأيقونة نشهد لها، لكونك كنت متعطشًا للمطلق، وقد انطبعت السكينة على مُحيّاك، مرتفعًا فوق الزمان، ومتحررًا من عجز التغييرات وقصورها، لأنك أمسكت بسر المسيح الذي عبّرت عنه بلا واسطة، ولا منطوقات كثيرة، ومن دون توسط الحواس.
كتبك، وعلمك، وإقناعك، وبراهينك الأيِّدة القوية أحجمت عن أن تكون هي واجهتك، فكنت مختفيًا منكرًا للضجيج واللهو الذي كنت حريصٍ أن تفر منه …كذلك تمكنك من ناصية اللغة العربية ودورك في مراجعة بروفات كتب مؤلفات ابينا القديس بيشوي كامل ؛ وايضا دورك الكبير في المراجعة اللغوية لكتب مدارس احد محرم بك في السبعينيات ، وكذلك مراحعتك لاصدارت كنيسة مارجرجس سبورتنج قبل طباعتها في مطبعة الكرنك أنذاك ؛ وستبقى كتبك واعمالك التي خصصتها للاسرة ، ولشرح اللاهوت، وتثبيت العقيدة والدفاع عنها، باقية بالمكتبة ذخيرة تعلن عمل إلهنا في هذا الجيل،، وستبقي وديعة المسيح الساكنة وسط الصخور بيعة مارجرجس وصرح مستشفي الروماني من شوامخ. اعمالك حتي ساعة انتقالك (- الجمعة ٥ / ٧ / ٢٠٢٤م ) مع كهنة الحق السمائي، الذين يسجدون قدام الحمل الذي له المجد مع أبيه الصالح والروح القدس إلى الأبد. آمين.