(د. أشرف ناجح إبراهيم عبد الملاك)
إنّ ما حدث في مِصْرنا الحبيبة وبها، وما مرّ علينا كشعب مصريّ (مسلمين ومسيحيّين)، لا يخفى على أحد، سواء كان داخل مِصْر أو خارجها: ثورة 25 يناير 2011 وشعارها (عيش، حريّة، عدالة اجتماعيّة)، خطاب الرّئيس مبارك وتنحِّيه، الاعتصامات، البيانات، الفوضى، أحداث ماسبيرو الدّاميّة، هجرة الأقباط من مِصْر، الانتخابات البرلمانيّة، الانتخابات الرّئاسيّة، فوز الدّكتور مرسي (مرشّح الإخوان المسلمين) في سباق الرّئاسة، كتابة الدّستور، فترة حكم الإخوان المسلمين.
 
فكم كانت معقّدة تلك الأيّام والظّروف الصّعبة التي مرّ بها بلدُنا الحبيب مِصْر! وكم كان شاقًا للغاية –حتى على كبار المحلّلين والصّحفيّين والسّياسيّين أنفسهم– التّكهُّن بمصير بلدنا ومستقبله! وحينما يعود المرءُ بذاكرته إلى الوراء، لإعادة التّفكير في أبعاد الأحداث المنصرمة، يتّضح له جليًّا أن ما حدث كانت له نواحٍ تاريخيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ودينيّة، وأنّه لمِن الصّعب إيجاد قراءة واحدة شاملة جامعة لهذه الحقبة بطريقة متكاملة وموضوعيّة ومتّسقة من جميع جوانبها. 
 
يقول فيدور دوستويفسكي، في روايته الشهيرة "المراهق"، إنّه في فرنسا، في أيام الثّورة الفرنسيّة، كانت الثّورة بمثابة الشّخص الأوّل، ونابليون بمثابة الشّخص الثّاني؛ ولكنّ نابليون بعد ذلك تربّع في المكان الأوّل، والثّورة ذهبت إلى المكان الثّاني. فماذا نقول نحن بخصوص ثورة 25 يناير 2011؟ لقد احتلّت الثّورة المكان الأوّل في بدايتها، وكان الإخوان المسلمون، لا في المكان الثّاني، بل في المكان الأخير؛ وأمَّا فيما بعد نرى الإخوان المسلمين متربّعين في المكان الأوّل، والثّورة انتهت حزينة إلى المكان الأخير، لترثي حالها!
 
وأعلنت الاستطلاعات والدّراسات الأجنبيّة حينها أنّ أقباط مِصْر –أبناء مرقس الرّسول والمسيحيّين الأوائل– قد هاجروا بكثرة مِن مِصْر في تلك الأيّام، كما حدث ويحدث أيضًا مع جميع مسيحي البلاد العربيّة الأخرى. وقد قيل إنّ الأقباط المهاجرين، والعقول المفكّرة حتى من المسلمين، زاد عددهم يومًا بعد يوم، ولا سيّما بعد ثورة 25 يناير 2011، خوفًا من المستقبل الذي كانت تؤول إليه بلدهم، إذ كان يبدو غامضًا للغاية. وربّما كانت هنالك مبالغات في أعداد المهاجرين من الأقباط، ولكنّ الواقع المرير أثبت أن هذا الأمر حدث بالفعل. وأيًّا كانت أسباب هجرة الأقباط، وأيًّا كانت الاحتياجات الحقيقيّة والواقعيّة للأمان والاستقرار ومستوى المعيشة الرّفيع...إلخ، إلّا أنّه لا يمكننا أن نخدع أنفسنا ونغفل عيوننا عن تلك الفترة العصيبة. 
 
ومع ذلك، ثمّة حدثٌ لا يُنسى، ولن يمحي الدّهرُ ذكراه وثماره، أعني ثورة الـ30 من يونيو، وخاصّةً يوم الـ3 من يوليو لعام 2013؛ إنّه يوم حاسم في تاريخ مِصْر المعاصر. وهنالك مَن اعتبر –ولا يزال يعتبر–  هذا اليوم، ولا سيّما في نطاق إعلام الإخوان المسلمين والإعلام الغربيّ، انقلابًا عسكريًّا على رئيس شريعيّ جاء به الصّندوق الانتخابيّ. وأتذكّر جيّدًا حوارات محتدّة مع بعض أصحابي الأجانب حول هذه القضيّة، وموقفنا المؤيّد كمصريّين لثورة الـ30 من يونيو المجيدة. وعندما كنّا نصل إلى طريق مسدود في النّقاش، كنتُ أقول لهم: حسنًا، إنّه "انقلاب شعبيّ" (وليس "انقلابًا عسكريًّا")، إذ إنّ جيش مِصْر العريق انصاع لإرادة الأمّة بأسرها، مسلمين ومسيحيّين.
 
أجل، إنّها إرادة شعب واعٍ وراغب في التّنوُّع والاختلاف الصّحيّ على جميع مستويات الحياة. وكنتُ أعرض عليهم عدّة صور ومشاهدات للتدليل على ذلك... انظروا هذا العدد الهائل من جموع الشّعب (نحو 30 مليون نسمة)، في جميع أنحاء المحافظات المصريّة، أو هذا الالتفاف الجماهيريّ لأطياف الشّعب المصريّ، جيشًا وشرطةً وشعبًا! وكم كان جميلًا أن ترى بابا الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة الوطنيّ (ومعه رؤساء كنائس أخرى)، وشيخ الأزهر الجليل، والقادة السّياسيّين، وهم يقولون "لا" في وجه مَن أراد أن يفرّق بين صفوف الشّعب المصريّ العريق، ويطمس معالم مكونات الشّعب الأصيل، ويهدم "الأعمدة السّبعة للشخصيّة المصريّة" أو بعضها (كما جاءت في كتاب الدّكتور ميلاد حنّا)، ويفرض علينا "الأصوليّة" و"التّطرُّف" منهجًا في الحياة والسّياسة والدّين. 
 
وعند مراجعة أوراقي المبعثرة، وشخابيطي الفيسبوكيّة، ومقالاتي في بعض المواقع الكنسيّة، ينتابني –نوعًا ما– شعور بالدهشة، إذ كانت الأفكار والمشاعر حائرة ومختلطة ومتضادّة في تلك الأيّام الصّعبة. وقد دوّنتُ ما دوّنته ليس كسياسيّ أو محلّل أو صحفيّ، وإنّما كقبطيّ مغترب عن وطنه الأمّ؛ وكنتُ أربط بين الأحداث المعاصرة آنذاك وصفحات الكتاب المقدّس (مثلًا: الفصل الحادي عشر من بشارة القدّيس يوحنّا، الذي يقصّ "مرض وموت وإقامة لعازر"). وإزاء هذا النّصّ الإنجيليّ داعبتني بعض الخواطر التي كان فحواها أنّ بين هذا المشهد ("مرض لعازر وموته وإقامته") وما كانت تمرّ به مِصْر تشابهًا كبيرًا، برغم اقتناعي بأنّ المقارنة بين ما حدث للعازر وما كان يمرّ به بلدنا الحبيب، ليست بمقارنة كاملة خالية من الشّوائب ونقاط الضّعف.
 
فلا شكَّ في أنّ أيَّ مفارقة أو قياس يحتوى على تشابه وتباين، وعلى نقاط تلاقٍ وتباعد.
 
ولكن، على كلّ حال، قد قارنتُ بين لعازر ومِصْر من حيثُ المرض والموت والقيامة، واقترحتُ تكثيف الصّلوات الحارة والامتلاء بالإيمان والرّجاء في تلك الأيّام العصيبة.
 
وقلتُ حينها أيضًا "إنَّ مصرنا أُمّنا المريضة والمائتة لهي في أشدِّ الحاجة إلى صلواتنا وإيماننا، حتى يحدث معها ما حدث للعازر". وقد حدثت المفارقة، وقامت مِصْرُ من جديد، في الـ30 من شهر يونيو لعام 2013، لتبدأ عصرًا مملوء بالرّجاء والأمل والتّطلّعات العظيمة، وإن كنا لا نزال نتأرجح بين "المرتجى والمؤجّل" (غائب طعمة فرمان). 
 
وفي نهاية المطاف، هذه هي دعوتنا لمِصْر، وطننا وأمّنا:
قومي، يا أمّ ومهد الحضارات قاطبة؛ 
قومي، يا مفعمة بالخصوبة ويا أرض الكنانة؛ 
قومي، يا معبد ومحراب وهيكل الإله الواحد؛ 
قومي، يا أرض الأنبياء وفضاء النّبوة؛ 
قومي، يا فجر الضّمير والأخلاق والمعاملات الصّالحة الطّيبة؛ 
قومي، يا رَحِم النّساء الجميلات والحكيمات والقائدات والرّائدات؛ 
قومي، يا حقل ومصنع الرّجال العقلاء والأقوياء والنّجباء؛ 
قومي، يا موطن العلم والعمارة والعمل والكفاح؛ 
قومي، يا وطنًا نستوطنه ويعيش فينا!
أبناؤك، يا أمّي، مغرمون بعشقك، 
ويحبّونك (أكانوا قائمين فيك أو مغتربين عنك)؛ 
أبناؤك مجروحون معيشةً أيضًا، 
وينزفون قطرات العرق دماءً، فيحتاجون لحنانك وأدويتك؛ 
أبناؤك مهمومون ومهتمّون بنهضتك الشّاملة، 
ويدركون أنّ قوتك وصلابتك –رغم العراقيل والمصاعب– 
تنبع من داخلك؛ 
أبناؤك واثقون من شفائك وقيامك وقيامتك، 
فهم واثقون أشدّ الثّقة في خالقك وطبيبك وحارسك!
أخيرًا، يا أمّي، 
إنّ هذا ليس حنينًا للماضي السّحيق والغابر، 
ولا رغبة –لا شعوريّة– في العودة إلى "العصر الذّهبيّ"؛ 
وإنّما هو رجاء حيّ في المستقبل القريب، 
وحلم وطموح في الوصول إلى أفضل العصور الممكنة!
نقلا عن مبتدا